مساء الثلاثاء المنصرم كانت مواقع التواصل الاجتماعي في السودان تغرف في الاستهجان والاستنكار والإدانة لفساد النظام البائد الذي أعلنت عنه لجنة إزالة التمكين ومحاربة الفساد واسترداد الأموال عبر مؤتمرها الصحفي ، ولكن نهار أمس الأربعاء ، كان عنواناً كبيراً للصراخ والعويل والبكاء على سقوط النظام البائد في عيون غالبية السودانيين بسبب الفساد نفسه، لم يحتمل أنصار النظام البائد أن تنهال عليهم اللعنات من كل صوبٍ وحدب، ولم يستطيعوا الصبر تحت خنادق الكتمان طويلاً، وهم يرون أن الأحداث من حولهم تشير إلى اقتراب النهاية التي ظلوا يرفضونها ، ويحسبونها (عارضاً) مؤقتاً سوف ينتهي إلى زوال. تزامن ذلك مع الإعلان عن قرار مجلس الأمن الدولي الخاص بموافقته على طلب رئيس الوزراء عبدالله حمدوك والخاص بالبعثة الأممية، والذي أعلن الحزب المحلول وبقية حلفائه رفضهم له والتهديد بالتصعيد ضده، كما أن إعلان المحكمة الجنائية الدولية عن وصول (علي كوشيب)- المتهم بقضايا الحرب والإبادة في دارفور- إلى مقرها في لاهاي، بالتأكيد قد يساهم في إعادة الروح للمحكمة الجنائية من جديد وقد يساهم في نبش الدعاوي ضد قادة النظام البائد المحتجزون في سجن كوبر، وهو ذات الأمر الذي يدفع أنصار النظام البائد للتصعيد عبر المظاهرات التي تأتي في توقيت يعاني فيه الناس ظروف حياتية قاسية بسبب الحظر الصحي.
مظاهرات الخرطوم
منذ ساعات متأخرة من ليل الثلاثاء، كانت القوات المسلحة أغلقت الشوارع المؤدية إلى القيادة العامة، وشددت على إغلاق الكباري في العاصمة الخرطوم، مؤكدة بأن استخبارات الجيش أكدت بأنها لديها معلومات بأن أنصار النظام البائد يخططون لتظاهرات في الخرطوم حاشدة يوم الأربعاء، وبالفعل تجمع مئات من المتظاهرين في قلب الخرطوم والشوارع المؤدية للقيادة العامة رغم التشديد في الحظر والإغلاق، وهتفوا بإسقاط حكومة حمدوك ، ونددوا بالبعثة الأممية، ورفعوا شعارات مقتبسة من شعارات الثورة وعلى شاكلة (تسقط حكومة الجوع، وتسقط حكومة العملاء، وتسقط حكومة الخونة، وما بنرجع إلا البيان يطلع، ويا برهان عايزين بيان). وحاولت القوات الشرطة التدخل عدة مرات لتفريق التظاهرات بإطلاق الغاز المسيل للدموع، إلا أن المتظاهرين كانوا يصرون على مغازلة الجيش لتوفير الحماية والانقضاض على حكومة الثورة.
منزل الشهيد كشة
تعرض منزل شهيد مجزرة فض الاعتصام عبدالسلام كشة إلى وابل من الحجارة التي قذفها المتظاهرون على سور المنزل ومما عرض والد الشهيد كشة للإصابة في ساق الرجل. وقال عبدالسلام كشة في تصريحات تناقلتها وسائل التواصل الاجتماعي، أن مسيرة أنصار النظام المخلوع كانت تظن أن يوم الأربعاء هو يوم تصعيد معلن من قبل منظمة أسر الشهداء، ولذلك عندما تم تفريق المتظاهرين المحسوبين على النظام البائد من شارع السيد عبدالرحمن، انحرف كثير منهم إلى شارع منزلنا، وعندما رأوا صورة الشهيد كشة المرسومة على جدران المنزل انهالوا على المنزل بالحجارة، وقال أنه اضطر لمقاومتهم لطردهم ولكنهم ضربوه بالحجارة على رجوله وأن والدة الشهيد تعرضت للسب والشتائم، وأكد أن كثير من شباب لجان المقاومة في الخرطوم أسرعوا إلى منزل الشهيد وشكلوا حماية له من المتظاهرين ونجحوا في طردهم بعيداً عن المنزل، وأشار والد الشهيد أن ذلك كان يحدث على مقربة من شارع الملك نمر الذي ترتكز فيه عدد من القوات الأمنية. وكان رئيس منظمة أسر شهداء ديسمبر، عباس فرح، تلا بيان إنابة عن المنظمة أدان فيه هجوم أنصار النظام المخلوع على أسرة الشهيد كشة، وأكد على أن أسر الشهداء نجحوا قبل تظاهرات الأربعاء مع النائب العام للتوصل على موافقة النائب العام لإنشاء محاكم خاصة بالشهداء وكذلك محاكم لقيادات النظام البائد وسوف يشرع في تنفيذها بعد إنجلاء جائحة الكورونا مباشرةً. وأكد فرح على دعم المنظمة لحكومة حمدوك وتأييدها وأنهم يعتبرونها الحكومة التي فرضها الشهداء ، وأن نقدهم للحكومة والحرية والتغيير يأتي من باب الدعوة لتصحيح مسار الثورة التي كان يحلم بها الشهداء.
استغلال أوضاع
بالطبع انطلق المتظاهرون من أنصار النظام البائد بالتركيز على الأوضاع المعيشية التي يعانيها المواطنون بسبب حالة الانهيار الاقتصادي والأوضاع الاستثنائية التي تسببت فيها جائحة كورونا. وحاول أنصار النظام البائد بالتغطية على أجندتهم السياسية القائمة على عرقلة مسيرة الحكومة الانتقالية بتوجيه أنظار المواطنيين قسراً على فشل الحكومة في مخاطبة قضاياهم الحياتية، وأن حكومة الثورة تريد جلب المستعمر الأجنبي ليكون حاكماً في البلاد. ويرى نشطاء ومراقبون بأن المتظاهرون لم يتطرقوا مطلقاً لإدانة فساد قيادات وواجهات النظام البائد والتي أضاعت مقدرات البلاد وأهدرتها وأحالتها لممتلكات خاصة بالحزب والتنظيم، مثلما تم الإعلان عنها صراحة عبر لجنة إزالة التمكين، ولم يمتدح أنصار المخلوع كل السياسات الأخيرة التي ابتدرتها حكومة الثورة لتحسين أوضاع المواطنيين عبر سياسة رفع الرواتب لموظفين الدولة الذين عانوا الأمرين في عهود حكم الانقاذ، وأضاف مراقبون بأن المتظاهرون لم يتطرقوا إلى المطالبة بالقصاص لشهداء ثورة ديسمبر ولم يعيروها اهتماما، بل حاولوا الاعتداء على أحد رموز شهداء ثورة ديسمبر.
ضد البعثة
كانت تظاهرات أنصار النظام المخلوع عنوانها الأبرز هو تشكيل رأي عام ضد البعثة الأممية، وهو الأمر الذي ساهم تحفظات مجلس الأمن والدفاع على بلورته في تظاهرات الأمس، حيث يتهم ناشطون مؤيدون للثورة والحكومة المدنية المكون العسكري في السلطة الانتقالية بأنه لم يكن متحمساً لفكرة البعثة الأممية لأنه ينطلق من فرضية أن المدنيون غير قادرون على حكم البلاد وأن اختلافاتهم سوف تعصف باستقرار البلاد، ويتهمونه دائماً وأبداً بأنه يعمل على عرقلة الانتقال بطريقة أو بأخرى لأنه يريد الاستئثار بالسلطة كاملة، وعلى الرغم من أن قيادات المكون العسكري دائماً ما يقرون صراحة بأنهم لا يريدون الحكم لوحدهم. بالأمس رحب مجلس الأمن والدفاع بالقرار الخاص بإنشاء بعثة انتقالية لتقديم الدعم الفني لحكومة الفترة الانتقالية والقرار الخاص بتمديد عمل بعثة اليوناميد حتى ٣١ ديسمبر القادم الصادرين من مجلس الأمن الدولي في الثالث من يونيو الحالي . وقالت الحكومة أن هذه القرارات تأتي استجابة إلى طلب خطاب حكومة السودان للامين العام الامم المتحدة بتاريخ ٢٧ فبراير ٢٠٢٠م. وأكد مجلس الأمن والدفاع أن هذه القرارات سوف تسهم في دعم استقرار الفترة الانتقالية وعودة السودان للاسرة الدولية مع التأكيد الوارد في القرارين على حفظ الحقوق الوطنية الكاملة. وأعلن مجلس الأمن والدفاع عن بعض التحفظات على القرارين وأكد على الاستمرار فى العمل المشترك مع الامم المتحدة ومجلس الامن الدولي والاتحاد الأفريقي والأصدقاء والشركاء للتوصل إلى حلول تتسق مع ماورد في خطاب طلب السودان وحقوقه فى الحصول على الدعم الفني المطلوب والمحافظة على أمن وسيادة السودان. تحفظات مجلس الأمن والدفاع غير الموضحة في بيانه أثارت حفيظة النشطاء على منصات التواصل الاجتماعي، واعتبروها تتماشى لحدٍ ما مع قوى الثورة المضادة التي أعلنت صراحةً تصديها للبعثة الأممية بكافة السبل، ومما يوحي بأن المكون العسكري لن يتوانى في وضع المتاريس أمام البعثة التي أصبح وجودها أمراً واقعاً بموجب القرار الأممي.
كوشيب والدوافع الخفية
طالبت مدعية المحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا الحكومة السودانية بتسليم بقية المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية على رأسهم الرئيس المعزول عمر البشير واثنين من مساعديه المقربين. وجاءت تصريحات المدعية الثلاثاء بعد ساعات من إعلان المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي أن المطلوب على كوشيب سلم نفسه طواعية ما عدته بنسودا ” إنجازا بارزا في حالة دارفور”. وانتقل كوشيب منذ أشهر الى دولة أفريقيا الوسطى المتاخمة لدارفور عابرا الحدود بصحبة مجموعة عسكرية كبيرة، قبل أن يتم الإعلان رسميا الثلاثاء أنه سلم نفسه للمحكمة الجنائية. وأفادت المدعية أن المحكمة ستَتبع الآن الإجراءات القضائية وفقا لمتطلبات نظام روما الأساسي مع الاحترام الكامل لحقوق المشتبه به والإجراءات القانونية الواجبة، تحت إشراف قضاة المحكمة وسلطتهم. وكررت دعوتها للسلطات السودانية لضمان العدالة الملموسة للضحايا في دارفور دون تأخير لا مبرر له. ونبهت الى أن أوامر القبض المتبقية في حالة دارفور لاتزال سارية المفعول ضد كل من، عمر البشير وعبد الرحيم محمد حسين وأحمد هارون وعبد الله بندا. وأردفت ” على هذا النحو، لا تزال حكومة السودان ملزمة قانونا بنقل المشتبه فيهم الأربعة المتبقين إلى المحكمة لمحاكمتهم. ويرى مراقبون ونشطاء بأن تسليم كوشيب نفسه للمحكمة الجنائية ساهم في تعقيد أوضاع النظام المخلوع، وهو ما يدفع أنصاره الآن لمحاولة تغيير حكومة الثورة قبل أن يصبح التعاون بين الحكومة والمحكمة الجنائية أمراً واقعاً ولا مناص منه.
عبدالناصر الحاج
صحيفة الجريدة