ملفات

بهاء الدين عيسى يكتب: الجَيشُ والسِّياسةُ.. كَيفَ دَخَلَ « العَسكَر » في صِرَاعَ السُّلطة بالسودان الحلقة الخامسة

بهاء الدين عيسى يكتب: الجَيشُ والسِّياسةُ..
كَيفَ دَخَلَ « العَسكَر » في صِرَاعَ السُّلطة بالسودان
الحلقة الخامسة

سوار الذهب: “أضفتُ فوق وعدي بتسليم السلطة عشرين يومًا فقط حتى تكتمل الانتخابات الديمقراطية”
مدخل:
في يونيو من العام 2021، نشرتُ في صحيفة «التيار» سلسلة تحقيقات استقصائية من نحو ثماني حلقات تحت عنوان:
“الجيش والسياسة.. كيف دخل «العسكر» في صراع السلطة بالسودان؟”
وقد سعيت من خلالها إلى تسليط الضوء على واحدة من أعقد قضايا تاريخ الدولة السودانية المعاصرة: كيف أصبح الجيش طرفًا أصيلًا في صراع السلطة؟ ومن المسؤول عن إدخاله في هذا المسار؟
شكلت تلك السلسلة النواة الأولى لمشروع أوسع، تمثّل في إعداد كتاب يحمل العنوان نفسه، وهو عمل بحثي توثيقي وتحليلي ما يزال قيد الإعداد، ويُتوقع أن يرى النور قريبًا.
وعبر هذه السلسلة من المقالات، سأقدم مقتطفات منتقاة من الكتاب، تستعرض تطور العلاقة بين الجيش والسياسة، وتُحلل ديناميكيات السلطة، وتطرح الأسئلة الجوهرية التي ظلّت معلقة لعقود دون إجابات قاطعة.

سوار الذهب.. استثناء في سياق عسكري مألوف
منذ الحلقة الأولى، تابعنا كيف خطا الجيش السوداني خطواته الأولى في دروب السياسة، من انقلاب 17 نوفمبر 1958 بقيادة الفريق عبود، إلى انقلاب مايو 1969 بقيادة النميري، وصولًا إلى الإطاحة به في أبريل 1985 (عبد الله علي إبراهيم، الثقافة والديمقراطية في السودان).
في كل مرة، كان الجيش يتقدم على المسرح بزعم تصحيح المسار، لكنه سرعان ما يتحوّل إلى سلطة قابضة.
في هذا السياق المضطرب، برز اسم المشير عبد الرحمن سوار الذهب، لا بوصفه منقذاً عسكرياً، بل بوصفه حالة نادرة من الوفاء بالعهود والانسحاب الطوعي من السلطة، بعد عام واحد فقط من قيادة البلاد في مرحلة انتقالية أعقبت سقوط نميري (عبد الرحمن سوار الذهب، مذكرات).

سقوط “أب عاج” والنهاية المرتقبة
قبل سقوط النميري، كانت البلاد في أزمة اقتصادية طاحنة، بعضها بلغ حد المجاعة (عصام الدين عبد الوهاب بوب، الاقتصاد السوداني وأزمة الانتقال السياسي).
تضج العاصمة بالإضرابات والمظاهرات منذ مارس 1985، وتشتعل غضبًا مع ارتفاع أسعار الخبز.
وفي صبيحة السادس من أبريل، وبينما كان النميري في طريقه من واشنطن إلى القاهرة، أعلن وزير الدفاع، المشير عبد الرحمن سوار الذهب، انحياز الجيش للشعب وتعطيل العمل بالدستور، منهياً بذلك حكم جعفر نميري الذي امتد ستة عشر عامًا (حسن أحمد إبراهيم، ثورة شعب).

الضابط الذي اختار الانسحاب
وُلِد عبد الرحمن سوار الذهب في أم درمان عام 1935، وتخرج في الكلية الحربية عام 1955، قبل عام من نيل السودان استقلاله.
شهد انقلاب عبود، وانقلاب النميري، ورفض تسليم مدينة الأبيض لهاشم العطا أثناء محاولة انقلاب 1971، مما كلّفه الإبعاد عن السودان (عبد الرحمن سوار الذهب، مذكرات).
لكنه عاد في 1975 وتدرّج حتى أصبح وزيرًا للدفاع. وعند اندلاع انتفاضة أبريل كان في موقعٍ حرج: هل ينحاز للرئيس الذي عرفه طويلاً أم للشعب الذي بات غاضبًا؟
في لحظة فارقة، قرر أن يصغي لصوت الشارع، وأن ينحاز لمطلب التغيير. لم يكتفِ بإسقاط النظام، بل حلَّ جهاز أمن الدولة، واعتقل رجاله، واستدعى وكلاء الوزارات للوقوف على حقيقة الوضع، فصُدم من حجم الانهيار الاقتصادي، حتى أن احتياطي البترول لم يكن يكفي لأكثر من أسبوع (عصام الدين عبد الوهاب بوب، الاقتصاد السوداني وأزمة الانتقال السياسي).

إدارة انتقالية بميزان العدل
أصدر سوار الذهب قانون الانتخابات، وأعاد تقسيم الدوائر بين “الخريجين” و”الأقاليم”، وشكّل حكومة مدنية برئاسة الدكتور الجزولي دفع الله .(منصور خالد، الفترة الانتقالية في السودان).
أُبعد الإسلاميون من التشكيلة الحكومية باعتبارهم من أنصار النظام البائد، وسمح ببروز الأحزاب مجددًا: الأمة، الاتحادي الديمقراطي، الحزب الشيوعي، والإخوان المسلمون بقيادة حسن الترابي.
أما الجنوبيون، فظلّوا ينظرون بعين الريبة إلى المجلس العسكري، ويرون فيه “نسخة مخففة من نميري”، كما قال جون قرنق.

الوفاء بالوعد.. والانسحاب
أُجريت الانتخابات في موعدها، وحصل حزب الأمة على 38% من المقاعد، والاتحادي الديمقراطي على 29%، والجبهة الإسلامية على 17%، في مفاجأة صادمة، رغم أن زعيمها الترابي خسر في دائرته (حسن أحمد إبراهيم، ثورة شعب).
وفي مشهد نادر في السياسة العربية، سلّم المشير سوار الذهب السلطة لرئيس الوزراء المنتخب الصادق المهدي، وانسحب بهدوء، متجاوزًا مغريات النفوذ، ومخالفًا سُنن الحكم العسكري التي لم تعتد على مشاهد تسليم طوعي للسلطة (عبد الرحمن سوار الذهب، مذكرات).

بين الاستثناء والقاعدة في مشهد السلطة
جاء سوار الذهب في لحظة فارقة، لا ليعيد إنتاج الحكم العسكري كما فعل أسلافه، بل ليكسر النمط، ويثبت أن الجندية لا تعني بالضرورة التعلق بالسلطة أو السقوط في غوايتها.
لكنه، في الواقع، كان استثناءً في سياق سياسي ظل فيه العسكر يمسكون بمفاتيح الدولة حتى بعد مغادرتهم للكرسي (عبد الله علي إبراهيم، الثقافة والديمقراطية في السودان).

تقويض الديمقراطية الثالثة
رغم مشاركتهم في النظام الديمقراطي الذي أعقب انتفاضة أبريل 1985، عملت “الجبهة الإسلامية القومية” بقيادة حسن الترابي على تقويض الديمقراطية الثالثة من الداخل، عبر إستراتيجية مزدوجة: التمكين التنظيمي داخل مؤسسات الدولة، والتخريب السياسي للتحالفات المدنية (منصور خالد، الفترة الانتقالية في السودان).
استغل الإسلاميون مناخ الحريات لبناء نفوذ واسع في الجيش، وجهاز الأمن، والنقابات، والجامعات، وفق خطة محكمة لاختراق مفاصل الدولة.
وفي البرلمان، لعبوا دور المعارض الشرس لحكومة الصادق المهدي رغم دخولهم في تحالف حكومي لفترة قصيرة، ثم انسحبوا منه وبدأوا حملة تصعيدية لإظهار فشل الحكومة.
كما عرقلوا أي جهود للوصول إلى تسوية سلمية مع الحركة الشعبية، ورفضوا إلغاء قوانين سبتمبر، ووقّعوا “ميثاق الدفاع عن الشريعة” في 1989 لإفشال مبادرة السلام.
وبالتزامن، كانوا يُعدّون لانقلاب عسكري، عبر عناصر تم تجنيدها داخل القوات المسلحة، وقد تُوّجت هذه التحركات بانقلاب 30 يونيو 1989، الذي نفّذه العميد عمر البشير بالتنسيق مع الجبهة الإسلامية.
فالديمقراطية الثالثة التي وُلِدت على أنقاض نظام النميري لم تُعمّر طويلاً؛ إذ لم تمضِ سوى أربع سنوات .

المراجع:
1. عبد الرحمن سوار الذهب، مذكرات عبد الرحمن سوار الذهب: رحلة في ذاكرة الوطن، الخرطوم: دار النيل، الطبعة الأولى
2. منصور خالد، الفترة الانتقالية في السودان: الأزمات والخيارات، الخرطوم: مكتبة الوسيلة
3. حسن أحمد إبراهيم، ثورة شعب: الانتفاضة السودانية أبريل 1985، الخرطوم: دار جامعة الخرطوم للنشر
4. عبد الله علي إبراهيم، الثقافة والديمقراطية في السودان، بيروت: دار الفكر
5. عصام الدين عبد الوهاب بوب، الاقتصاد السوداني وأزمة الانتقال السياسي الخرطوم: دار المصورات للنشر.

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

بهاء  الدين عيسى

صحفي سوداني بارز، نال جائزة “أفضل إنجاز صحفي” ضمن مشروع كلمات سودانية من المؤسسة الفرنسية للتنمية، يُعرف بجرأته في التحقيقات الاستقصائية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى