للحقيقة لسان
رحمة عبدالمنعم
«ولاية تتألم… ووالي يتجمّل»
في صباح لا يختلف عن سواه في ولاية الجزيرة، وبينما يفتح المواطن عينيه على واقع قاسٍ من انقطاع الكهرباء، وشحّ المياه، وتردي الخدمات الصحية والتعليمية، كان طاقم مكتب والي الولاية الطاهر إبراهيم الخير منشغلاً بشيء آخر تماماً: نفي خبر مشاركة الوالي في افتتاح مركز تجميل بمدينة ود مدني، بعد موجة غضب واسعة اجتاحت “التايم لاين” السوداني.
اللافت في المشهد ليس فقط الحدث ذاته، بل حجم الحرج الذي بدا واضحاً في محاولة نفي خبر انتشر مصحوباً بصورة تجمع الوالي بصاحبة مركز “أمونة بيوتي” داخل مكتبه، فمهما كانت حقيقة المشاركة أو عدمها، فإن العبرة في الرمزية: ماذا يفعل والي ولاية خرجت قبل أشهر من حرب طاحنة، وهو يضع التجميل ضمن جدول اهتماماته، بينما تعيش ولايته واحدة من أسوأ مراحلها خدمياً وإنسانياً؟
الجزيرة اليوم لا تحتاج إلى “مكياج إعلامي” أو تبريرات متأخرة، بل تحتاج إلى رجل دولة يقرأ الواقع كما هو، لا كما يصوّره له مكتبه، فالحصاحيصا وأربجي، والمعيلق -الكاملين ـالجديد، وشرق الجزيرة من رفاعة حتى تمبول، كلها مناطق تئن من غياب الخدمات،الأسواق تعيش فوضى، والمستشفيات بالكاد تعمل، والكادر الطبي يتناقص يوماً بعد يوم، وسط نقص مخيف في الأدوية الأساسية.
ومع ذلك، لا نرى الوالي حيث يفترض أن يكون، لا جولات ميدانية، لا خطط عاجلة، لا مخاطبات جماهيرية تطمئن الناس أو تشرح لهم الموقف، فقط بيانات مكتبية تردّ على ما يُقال في( فيسبوك واكس)، وكأنّ الولاية تحكمها إدارة علاقات عامة لا حكومة محلية مسؤولة.
لقد عاش مواطنو الجزيرة تجربة مريرة من التهجير القسري والخراب المنظم على يد المليشيا، ودفعوا ثمناً باهظاً وهم يُقتلعون من ديارهم عنوة، لكن رغم الجراح، واجهوا المحنة بثبات نادر، وعاد كثيرون منهم ليعيدوا بناء ما تهدّم بإمكانات متواضعة وجهود طوعية صادقة، في غياب الدولة ومؤسساتها،فطرقوا أبواب العمل الأهلي، وابتكروا حلولاً من رحم الأزمة، كي تعود الحياة تدريجياً إلى مدنهم وقراهم، ومع ذلك، لم تواكبهم الحكومة الولائية، ولم يتقدم الوالي خطوة واحدة تليق بعزيمتهم،وكأنّ الجزيرة تُركت لتداوي جراحها وحدها، فيما منشغلو السلطة يطاردون الظلّ ويغفلون عن الألم الحقيقي.
ولعل السؤال الذي يُطرح الآن بصوتٍ عالٍ: ما الذي أنجزه الوالي الطاهر إبراهيم الخير منذ توليه المنصب؟ أين مشاريعه؟ أين بصمته؟ وأين خطته لانتشال الجزيرة من ركام الحرب والإهمال؟ الواقع يقول: لا شيء يُذكر، سوى حضور باهت، وتصريحات مناسبات، وحملات ترويجية لا تصمد أمام أول زيارة ميدانية لأي قرية خارج نطاق ود مدني.
إن ما يحدث في ولاية الجزيرة ليس مجرد تقصير إداري، إنه إخفاق سياسي وأخلاقي في وقت لا يحتمل المساومة، ولذلك، فإن المسؤولية الوطنية تقتضي أن يتدخل رئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، وأن يُقيل هذا الوالي الذي أثبت – بما لا يدع مجالاً للشك – أنه ليس على قدر تحديات المرحلة.
الجزيرة لا تحتاج إلى “والي صوري”، بل إلى مسؤول ميداني، عملي، متجرد، يُدير الأزمة ويخوض معركة إعادة الإعمار، لا معركة الدفاع عن صورة على مواقع التواصل، فقد تعب الناس، وانقضى وقت الكلام المجامل، وصار من الضروري أن تُوضع النقاط على الحروف:الجزيرة تحتاج إلى من يخدمها… لا من يتجمّل باسمها.