تحديات (البريكس) ورهان السودان
تحديات (البريكس) ورهان السودان
بقلم: خالد سعد
بينما يراهن كثير من النخبة الاقتصادية والسياسية في السودان على الاتجاه شرقا (قبل واثناء الحرب)، تثار تساؤلات حول ما إذا كانت (البريكس) هي الخيار المجدي، أم أن المسار بات أكثر تعقيدا مع التباس في هدف المجموعة -ذات الطابع الاقتصادي- لإنهاء احتكار هيمنة الولايات المتحدة والدول الصناعية الكبرى، وان كانت هذه الدول قادرة على الصمود والتماسك من أجل هذا الهدف، بل برزت الأسئلة مشككة عقب قمة (ريو17)، حول إن كانت المجموعة تناور فقط لتحسين شروط التعاون مع الغرب المهيمن؟!
بالطبع يظل تجمع البركس أبرز مشروع عالمي يواجه هيمنة الغرب والولايات المتحدة الامريكية في السنوات الأخيرة، ويمثل مشروعا جريئا لمجموعة من دول الجنوب العالمي المشرئبة الى التنمية والتقدم، وحققت البركس تقاربا نادرا بين أكبر دولتين في العالم هما الصين والهند.
المفارقة المهمة أن هذا التأثير الرمزي للبريكس قد أتاح في المقابل فرصة كبيرة لدول أخرى في (الجنوب العالمي) للصعود مستفيدة من زيادة المنافسة بين القوى العظمى (الصين وروسيا والولايات المتحدة)، وقد استفادت هذه الدول من هذا التنافس في قضايا مثل اتخاذ أجندة أكثر قوة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، والاتفاق على إصلاح صندوق النقد الدولي، بما في ذلك الاتفاق نظريا على موقف موحد حول “توزيع جديد لحقوق التصويت وإنهاء تقليد الإدارة الأوروبية للصندوق”.
و(الجنوب العالمي) يقصد به التجمع الواسع لبلدان ما بعد الاستعمار، وهو حاليا يبدي استعدادا أكبر لتحدي النظام العالمي المستبد، ومواجهة الهيمنة وإعادة تحديد قواعد النظام العالمي في قضايا مثل مناصرة اتفاق باريس بشأن تغير المناخ، وتقديم إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية.
ومع ذلك، من غير الواضح على الإطلاق على المستوى الاقتصادي الحاسم، إذا من الممكن مستقبلا لبلدان الجنوب لعب أدوار مستقلة أفضل في ظل التعددية القطبية عما كان لها في ظل النظام الدولي المهيمن، أو غيره، حيث تثار شكوك جادة حول هيمنة محتملة لروسيا أو للصين أو الهند (أعضاء بارزين في بريكس)، تعززها القيم الاقتصادية والايدولوجيات السياسية المتباينة والمختلفة عن طموحات دول أخرى في الجنوب.
قبل أكثر من عشرة سنوات، نشأت مجموعة البريكس (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب أفريقيا) كمحاولة جريئة لصياغة “نظام دولي جديد أكثر عدالة”، ومع اتساع عضويتها لاحقا لتشمل السعودية ومصر والإمارات وغيرها، ظن الكثيرون بأن العالم يقف على أعتاب توازن جديد.
لكن في القمة المنعقدة الأسبوع الماضي بريو ي جانيرو في البرازيل، أثارت “البريكس” الاسئلة لعدم اتخاذ أي خطوة من الخطوات الأكثر تأثيرا مثل إجراءات للتخلص من هيمنة الدولار، وإنشاء نظام مالي بديل، وتقديم الدعم للدول النامية بعيدا عن شروط الغرب، وأكتفت القمة بأجندة نظرية يمكن التوافق حولها بين دول “الجنوب” دون الانضمام إلى هذا التجمع، كما حدث في اكثر من مناسبة دولية.
بالطبع، لا جدال في قوة البريكس الاقتصادية الضخمة، لكنها ما تزال متعثرة في تحقيق هدفها المركزي، وهو مواجهة هيمنة الغرب فعليا.
معروف أيضا، بأن للغرب وللولايات المتحدة الأمريكية تحديدا دورا مهما في محاصرة أجندة البريكس وممارسة الضغوط على عضويتها أو الدول التي تحاول الانتساب إلى هذه المجموعة، وتعد الرسوم الجمركية التي بدأت إدارة ترمب في فرضها بنسب متفاوتة على القسم الاكبر من الوارادات، جزءا من ما يمكن وصفه تهديدا جديا بـ”الحرب التجارية” التي ستقوم بها واشنطن للتضييق على مجموعة البريكس و(فرتكت) جمعيتها.
بيد أن مسألة ضعف انجازات البريكس “الاقتصادية” (كأهم تجمع مناهض للهيمنة الغربية)، تتبدى أكثر في الخلافات البينية والتصورات الاقتصادية والتجارية والسياسية التي تختلف من دولة إلى أخرى بخاصة أعضاؤاها البارزين كالصين والهند وروسيا ودولا عربية ذات وزن اقتصادي عالمي.
نعتمد في هذا الصدد مؤشرات التجارة العالمية التي تعكس لنا مدى ارتباط هذه الدول بالغرب والولايات المتحدة وصعوبة الفكاك من هذه العلاقة من أجل بناء نظام مواز على الأقل، ورغم وصول التجارة العالمية في عام 2024 إلى مستوى غير مسبوق بلغ 33 تريليون دولار، وفق تقديرات “الأونكتاد”، فإن خريطة الصادرات العالمية تكشف أن الدول الأعضاء في (البريكس) ما زالت مرتبطة ارتباطا وثيقًا بالأسواق الغربية.
إن الصين التي تعتبر أكبر اقتصاد في البريكس وأكبر مصدر عالمي، صدرت بضائع بقيمة 3.58 تريليون دولار في 2024، بفائض تجاري يقارب تريليون دولار، لكن أبرز شركائها التجاريين من هم: الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، ورابطة آسيان.(يحدث ذلك رغم التوترات المتزايدة مع الولايات المتحدة الامريكية في عهد ترمب).
والهند هي أيضا عضو بارز في البريكس، ويتهمها المتشككون بأنها ذراع الغرب في التجمع المناهض له، بلغت صادراتها 824.9 مليار دولار مع استمرار اعتمادها على واردات التكنولوجيا والطاقة من الغرب والصين. (يعتقد طيف واسع من المحللين الغربيين بأن انضمام الهند للبريكس يضمن للقوة الاسيوية الصاعدة سلاسل التوريد القادمة من الصين وليس انضماما بهدف التكتل لمناهضة المشروع الغربي).
بينما تواجه روسيا عقوبات اقتصادية وسياسية، ولم تظهر مساهمتها في مؤشرات التجارة العالمية مقارنة بالصين والهند، مع إن توجهات وكالات التقييم الغربية نفسها يمكن أن تكون سببا في عزل روسيا من هذه المؤشرات، لكن ذلك لا يمنع الملاحظة بتراجع العلاقات التجارية الروسية مع العالم بشكل عام نتيجة للحرب في اوكرانيا.
ورغم سيطرة الصين على صدارة مؤشر الصادرات، بيد أن الولايات المتحدة الامريكية والدول الاوربية الصناعية الكبرى ما تزال مهمنة على الاسواق، إذ بلغت في نفس العام (2024) صادرات الولايات المتحدة 3.19 تريليون دولار، رغم عجز تجاري ضخم بلغ 918.4 مليار دولار، وما زالت تحتفظ بأكبر سوق استهلاكي عالمي، ووصلت صادرات ألمانيا إلى 1.7 تريليون دولار، بفائض تجاري قدره 281 مليار دولار، بينما بلغت صادرات بريطانيا 1.2 تريليون دولار.
أما الدول العربية التي تلقت الدعوة بالانضمام للبريكس، فهي الأخرى تحقق انجازاتها ضمن النظام الحالي لا ضده، فقد بلغت الصادرات غير النفطية لـ الإمارات حوالي 152.8 مليار دولار بنمو سنوي 27.6%، وللسعودية نحو 137 مليار دولار بنمو 13%، ورغم أن النسبة الأعلى لهذه الصادرات داخل البريكس نفسها وإلى بقية دول “الجنوب”، لكنهما ما زالتا معتمدتين بشدة على النفط وأسواق الغرب.
لقد أبقت هذه الدول على توازن محسوب ولم تنخرط بالكامل، وتعكس البيانات الرقمية هذا الحذر، فقد زادت السعودية تجارتها مع دول البريكس إلى 196 مليار دولار في 2023 (أي حوالي 37 % من تجارتها)، مقابل 29.7 مليار مع الولايات المتحدة و23 مليار مع بريطانيا، بينما رفعت مصر تجارتها مع البريكس إلى 50.8 مليار دولار في 2024، بارتفاع نحو 19 % عن 2023، لكنها ما زالت مرتبطة بالاتحاد الأوروبي والغرب عبر اتفاقيات طويلة الأمد، بينما حافظت الإمارات على علاقة قوية مع الصين والهند لكنها لم تتخل عن شراكاتها القوية مع الغرب، وهذا التوازن يعزز القول إن هذه الدول ترى البريكس فرصة لتعظيم المكاسب، وليس بديلا كاملا للغرب.
بالنسبة للسودان الذي يطمح إلى شراكات مع الشرق كبديل عن الضغوط والعقوبات الغربية، فإن الانضمام إلى هذا التجمع بعيد المنال مع ضعف وهشاشة الوضع الاقتصادي الداخلي، كما أن التوجه نفسه وجدواه بالاعتماد على البريكس والشرق صارت جديرة باعادة النظر.
بالنسبة لروسيا، فقد كانت تطرح كحليف في مواجهة الضغوط الغربية، لكن الحرب الأوكرانية أنهكت الروس، وتواجه ضغط اقتصادي كبير نتيجة العقوبات الغربية، كما أن انشغالها بالحرب قلص قدرتها على الاستثمار أو تقديم دعم حقيقي للدول الأخرى، واقتصر الدور الروسي على صفقات سلاح محدودة وبعض العقود الغامضة دون إنقاذ اقتصادي حقيقي أو دعم سياسي فعال، واستخدامها لحق النقض في مجلس الأمن في قضايا السودان لم يحدث غير مرة واحدة، وبدون تنسيق كامل مع السودان.
الواقع إن السودان يجد نفسه أمام معادلة صعبة، فالبريكس حتى الآن لا يستطيع أن يكون نظاما بديلا للغرب أو قادرا على مقارعته الند بالند، حتى الدول الإقليمية القريبة للسودان (السعودية، مصر، الإمارات) لا يغامرون بالانخراط الكامل مع البريكس، والصين الأكثر تأثير ونفوذ عالمي، توازن بين مصالحها في الغرب والشرق، وليس لدى السودان وضعية داخلية تمكنه حاليا من طمأنة الصين للعودة في مشروعات ضخمة مماثلة لمشروع النفط رغم الشراكة القوية سابقا.
بالنسبة للدكتور عادل عبد العزيز أحد ابرز المناصرين للاتجاه شرقا، فمن الضروري للسودان البحث عن مسار جديد للعلاقات الاقتصادية الخارجية، يقوم على أربعة محاور رئيسية: من بينها التفاعل مع مجموعة بريكس للاستفادة من نظام الدفع البديل وتقليل الاعتماد على الدولار، إلى جانب حشد الموارد الداخلية على غرار التجربة البرازيلية، من خلال تحفيز القطاع الخاص السوداني، وتعزيز التعاون مع الصين عبر القروض التفضيلية والانخراط في مبادرة الحزام والطريق، التعاون مع دول مثل روسيا، قطر، تركيا، إيران، ومصر، ومنح الشركات المصرية فرصة المشاركة في مشاريع إعادة الإعمار.
بينما يقترح المحلل الاقتصادي الدكتور عمر محجوب، تبني نهج وسطي يتيح للسودان الاستفادة من كلا المعسكرين، لتجنب الضغوط السياسية والاقتصادية، وأن السودان بحاجة إلى مساعدات واستثمارات أجنبية ضخمة، ما يستدعي بناء علاقات اقتصادية متوازنة مع مختلف القوى العالمية.
وهو ينظر إلى الصين بانها قد قدمت مساهمات مهمة في السودان، خاصة في قطاع النفط، لكنها في الوقت نفسه تمارس سيطرة اقتصادية ناعمة من خلال القروض واستغلال الموارد الطبيعية.
في تقديري، فإن السودان يواجه حاليا تحديات هائلة، وأخطرها حالة الحرب الراهنة، لذلك يظل الرهان على البريكس والشرق عموما فرصة محاطة بالعراقيل والمخاطر، غير أن تحويل هذه الفرصة إلى مكسب وقدرة على المواجهة، يتطلب توافقا وطنيا شاملا في اتخاذ القرارات الكبرى المتعلقة بمستقبل العلاقات الاقتصادية الخارجية، بما يضمن انسجام هذه السياسات مع أولويات التنمية وتطلعات السودانيين إلى التقدم.
ومع حدة التنافس الدولي، قد نجد نحن في السودان، بعد ترتب الاوضاع الوطنية الداخلية وتحديد الأجندة والاولويات، مساحة أوسع للمناورة وتحقيق مكاسب من كلا المعسكرين، بدل أن يبقى السودان مجرد ساحة للصراع بينهما، كما يبدو الآن.
المصادر:
1. مقال صعود دول عدم الانحياز لفيكتور سيبكوز في مجلة (فورن أفيرز) (مايو-يونيو 2023) تحت عنوان (العالم غير المنحاز: الغرب، والبقيَّة، والفوضى العالمية الجديدة)، والمقال لا يتحدث عن المفهوم التاريخي لدول عدم الانحياز وانما الدول الحذرة من آثار التنافس الصيني الأمريكي.
2. تحليل “قمة البريكس 2025: هل سيفوز النموذج البطئ والمستقر في السباق؟ معهد الدراسات الامنية iss، يوليو 2025.
3. تقارير من منصات اقتصادية الجزيرة نت وبي بي سي العربية والشرق.
4. تغطية قمة بريكس 17 في ريوالجزيرة نت.
5. تقارير احصائية في مجموعة متنوعة من منصات عربية وافريقية.
6. مجلة نافذة Sudan trends العدد الثاني، الصادرة عن المركز السواني للاتصال التنموي في مارس 2025م.
# الصورة من وكالة سبوتنيك.