الخرطوم : أحمد طه صديق
ربما من الطبيعي والمتوقع أن تأتي وفود أمريكية ودول (الترويكا) في إطار التطورات الدراماتيكية ذات الطابع التراجيدي الذي ينتظم البلاد في أعقاب قرارات الخامس والعشرين من أكتوبر التي أطاحت بالحكومة المدنية وأحدثت تعديلات إنقلابية في الوضع السياسي الذي كان قائماً آنذاك ، لكن بالطبع ليس من المتوقع أن يأتي وفد إسرائيلي إلى الخرطوم في تلك الطروف الحرجة التي تشهد واقعاً ملتهباً لأن إسرئيل لا يمكنها أن تحمل مبادرة سياسية للقوى المدنية التي ظل معظمها متحفظة على تطبيع العلاقات بين السودان وإسرائيل غير أن تل أبيب فاجأت الجميع كعادتها وأرسلت وفداً للخرطوم يلتقي بالفريق أول البرهان وقادة عسكريين بحسب ما جاء في قناة (العربية) .
بيد أنه من المعروف إنه سبق أن جاءت وفود إسرائيلية للخرطوم بعد أن قام الفريق أول البرهان بزيارة مفاجئة وغير معلنة إلى يوغندا حيث إلتقى فيها برئيس الوزراء الإسرائيلي نيتنياهو مهدت لاحقاً لتفاهمات أكبرمع الإسرائييين وأسهمت في دفع خطوات رئيس الوزراء د. عبد الله حمدوك الرامية آنذاك لرفع السودان من قائمة التطبيع وهو ما تحقق لاحقاً حيث لم يكن حمدوك رافضاً لخطوة التطبيع لكنه كان يريده في نطاق محدود يعمل على تسهيل مساعي السودان الهادفة للإنفتاح مع المجتمع الدولي وفتح آفاق التعاون مع آليات التمويل الدولية وهو ما تحقق بالفعل ، غير أن بعض المراقبين يرون إن انفتاح البرهان على الأبواب الإسرائيلية ربما لا ينفصل لاحقاً عن ما حدث من تحولات جذرية بعد الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي فإسرائيل التي تعتبر غارقة في النهج (البرغماتي) الضيق لا تتحمس للأنظمة المدنية الديمقرطية في المنطقة وتفضل التعاون مع حكومات عسكرية قابضة تملك قرارها بعيداً عن أي تقاطعات سياسية أخرى وهو أمر لا يتحقق في ظل حكم مدني تعددي يدار بالمؤسسات الديمقراطية وفق آلياتها المتعارف عليها.
ويعزي المراقبون إن وجود آراء تقبل التطبيع مع إسرائيل في الماضي القريب داخل السودان كانت تعتبر حالة إستثنائية وربما تعبر عن نفسها على إستحياء ، بإعتبار إن السودان كبلد عربي و مسلم الأغلبية لم يكن ينفصل عن العقل الجمعي الذي غذته رياح القومية العربية الناشطة في فترة الستينيات وبروز حربين في المنطقة في عام 1967م و التي خسرها العرب حينما ضرب الطيران الإسرائيلي الطائرات المصرية وهي جاثمة على الأرض وما ترتب عليها من إحتلال إجزاء من الأرض العربية وكذلك حرب أكتوبر 1973م التي حقق فيها المصريون نصراً بإقتحام خط بارليف الحصين وتحرير جزءاً من الأرض قبل أن تتدخل الولايات المتحدة وتعين إسرائيل تكتيكاً بتقديم صور مهمة بالأقمار الصناعية فقامت إسرائيل على إثرها بمحاصرة الجيش الثالث المصري وإنقلبت بعدها الموازين السياسية والعسكرية في المنطقة برمتها.
الطريق إلى تل بيب
يرى المتابعون للشأن العربي إن التطورات السياسية والإقتصادية والأمنية في المنطقة كانت لها علاقة مباشرة بالتقارب بين الدول العربية والولايات المتحدة فالنمو القوي للعسكرية الإيرانية ومحاولات طهران المستمرة لتمديد نفوذها السياسي في المنطقة العربية بأذرع أمنية والسعي لتصديرالخطاب الديني ذات الخصوصية المذهبية المتقاطعة مع النهج السني جعل بعض دول العريية تسعى للحماية والسند الأمريكي خاصةً في ظل نشوء حروب بالوكالة في المنطقة لم تكن إيران بعيدة عنها ، ولأن هذه الدول تعلم إن السياسة الأمريكية ترتبط بالمشابك الإسرائلية لهذا لم يكن لتلك الدول خيار تعلن فيها رأي مخالف في خضم البيئة الظرفية الملغمة بمطبات الحروب وما يترب عليها من نزيف إقتصادي ومهددات أمنية وسياسية لها .
التطبيع في عهد بايدن
بالرغم من أن بعض المراقبين كان يتوقع أن تكون الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة جو بايدن أقل حماساً تجاه عمليات التطبيع الإسرائيلية مع الدول العربية من الرئيس السابق ترامب ، بيد أن التقارب الأمريكي الإسرائيلي والحفاظ على مصالح إسرائيل يعتبر من الثوابت في السياسة الخارجية الأمريكية على مر الحقب السياسية ، غير أن فريق بايدن قبل توليه السلطة قد أكد في وقت سابق دعم الإدارة الأمريكية الجديدة للسودان إقتصادياً لحماية صفقة التطبيع بينه وإسرائيل من التوقف أو حتى الإنهيار، وقال المسؤول الأمريكي: (يأتي تعزيز التطبيع السوداني الشامل مع إسرائيل متسقاً تماماً مع تصريحات فريق بايدن الأخيرة حول دبلوماسية الشرق الأوسط، كونها تُمكِّن من دفع السلام بين إسرائيل والفلسطينيين)، في وقت تعهّد فيه أحد كبار مُستشاري السياسة الخارجية لبايدن أنتوني بلينكين مؤخراً بأن إدارة بايدن ستواصل السعي والدعوة للتطبيع بين الدول العربية وإسرائيل، وأعتبر أن من شأن قيام دول عربية إضافية بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل، منح الإسرائيليين ثقةً أكبر للمضي قدماً مع الفلسطينيين وإرسال رسالة إلى الفلسطينيين، مفادها أنّ عليهم الإنخراط فعلياً والتفاوض بطريقة هادفة.
وماذا بعد ؟
غبر أن أنه بعد الخامس والعشرين من أكتوبر لم تعد الحكومة المدنية موجودة وما زال الشارع متلهباً مطالباً بحكم مدني رافضاً حتى للشراكة مع العسكر مما يعني إن زيارة الوفد الإسرائيلي للخرطوم في تلك الظروف المعقدة تحمل أبعاداً ودلالات تستحق الوقوف ولعل التساؤل المهم الذي سيطرحه معظم المراقبين والمتابعين للشأن السوداني ما الذي سيطرحه الوفد الإسرائيلي لقادة السودان العسكريين هل سيقوم بتليين مواقفهم تجاه الوصول لعودة الحكم المدني ؟ أم ستعمل على دعمهم وتكريس الواقع الحالي ؟ بيد أن من الثابت إن الولايات المتحدة في ظل قيادة بايدن رغم دعمها لإسرئيل كموقف تقليدي ثابت ومتوارث في السياسية الأمريكية لكنها تريد أن تحقق الإستقرار في السودان والمنطقة وهذا لن يحدث ما لم يتحقق أهداف الشباب الثائرين وقوى الثورة الأخرى وفق الشعارات التي يرفعونها غير أن إدارة بايدن ودول (الترويكا) الأخرى تريد مشاركة العسكر في الحكم مع دورتنفيذي أكبر للمدنيين لكنها الآن تواجه رفضاً كبيراً من قوى الثورة الشبابية تجاه هذا الموقف وتحاول عبر الأمم المتحدة أن تصل إلى مبادرة مقبولة للشارع الثائر لكن يبدو إن رد لجان المقاومة لمبعوث الأمم المتحدة في السودان لدعم الديمقراطية فولكر بيتيس الذي أكدت فيه رفضها واستمرارها في مواجهة قرارات العسكر وقيامها بتنظيم التظاهرات رغم سقوط عشرات الضحايا والمصابين في صفوفهم ، أوضح للبيت الأبيض إنه لا يمكن أن يتم فرض حل يتجاوز قوى الثورة الشبابية من معادلة الحل.
عليه ربما تكون زيارة الوفد الإسرائيلي للخرطوم جاءت بإيعاز من الإدراة الإمريكية بغرض تليين موقف العسكريين تجاه وضع تصور ربما يكون مفاجئاً يتمثل في أن يتنازل المكون العسكري برئاسة البرهان من سدة الحكم بعد أن يحل مجلس السيادة ويعين قيادة بديلة له وهو أمر كان متداولاً في الساحة السياسية بيد أن قبول العسكريون به سيكون شبه مستحيل في ظل إصرراهم على إكمال الفترةالإنتقالية حتى شوطها الأخير رغم كل تلك الاسقاطات الملتهبة حتى الآن وقد وضح ذلك في استمرار قانون الطوارئ وقرارت مجلس الأمن والدفاع الأخيرة.
لكن السؤال إذا حدث ذاك ما هو موقف الولايات المتحدة وقتها والذي بالطبع لن ينفصل عن سياسة الضغط بالعقوبات الفردية واستمرار حجب العون المادي عن السودان والتأثير على دول داعمة للعسكريين بدعم تلك المواقف العقابية بينما ستكون كل المآلات مفتوحة في البلاد حتى إشعار آخر .