عادل عسوم
أخيرا حسم الدكتور حمدوك أمره، حسمه بعد أن عاشر يسار قحت ممثلين في المجلس المركزي، وكأني بلسان حاله يقول لهم (عرفت الفيكم)، فقد ذكر ذلك بصورة واضحة في خطابه الأخير الذي اعلن فيه الوصول إلى طريق مسدود، وذكره من قبل عندما سئم انتفاء البرنامج منهم، ثم التدخلات وفرض الرؤى الشخصية التي تحدث عنها وزير مالية السيد ابراهيم البدوي، والتضارب في القرار منهم فيما يخص رفع الدعم وابقائه، غير ذلك كثير، سئم الدكتور حمدوك كل ذلك وصبر عليه لعامين وأكثر.
والآن يحمد لحمدوك أنه أعلى من مصلحة الوطن -حتى- على ميوله الحزبية المعلنة، يحمد له أنه (تسامى) ولم يغلب حظ نفسه عندما لم ينحاز إلى الذين ساقوا صغار السن بعد أن زينوا لهم (الحرية) بما ليس فيها، راهن على العقلاء من الثوار ممن انفضوا الآن عن واجهات اليسار وظهر ذلك جليا في الاحتشادات الأخ…
ومن يهن يسهل الهوان عليه
عادل عسوم
إنه صدر بيت من قصيدة المتنبي التي يقول فيها:
لا اِفتِخارٌ إِلّا لِمَن لا يُضامُ
مُدرِكٍ أَو مُحارِبٍ لا يَنامُ
لَيسَ عَزماً ما مَرَّضَ المَرءُ فيهِ
لَيسَ هَمّاً ما عاقَ عَنهُ الظَلامُ
وَاِحتِمالُ الأَذى وَرُؤيَةُ جانيـ
ـهِ غِذاءٌ تَضوى بِهِ الأَجسامُ
ذَلَّ مَن يَغبِطُ الذَليلَ بِعَيشٍ
رُبَّ عَيشٍ أَخَفُّ مِنهُ الحِمامُ
كُلُّ حِلمٍ أَتى بِغَيرِ اِقتِدارٍ
حُجَّةٌ لاجِئٌ إِلَيها اللِئامُ
مَن يَهُن يَسهُلِ الهَوانُ عَلَيهِ
ما لِجُرحٍ بِمَيِّتٍ إيلامُ.
ومعنى هذا الشطر من البيت،
اي ان الذي يقبل الذل والمهانة؛ يصبحان امرا معتادا عنده مابقي من عمره، ثم شبه الذليل القابل للهوان بالميت في تتمة البيت فقال:
وما لجرح بميت ايلام.
فكما ان الجرح الذي يؤلم الحي لا يؤلم الميت؛ كذلك الهوان الذي يؤلم العزي، فإنه لا يؤلم الذليل.
تذكرت بيت شعر المتنبي هذا خلال مشاهدتي لمباراة المنتخب السوداني الأخيرة في كأس العرب الذي تحدث فعالياته هذه الأيام في دولة قطر، والمعلوم أن كرة القدم (غالب ومغلوب) كما اعتيد القول، وعلى المرء تقبل نصرها وهزيمتها بصدر رحب، لكنني والحق اقول لم استطع تقبل هذه الهزائم المريرة بالرغم من اعتدادي بسعة صدري وطول بالي المعهود عني بين معارفي، والمسألة ليست مرهونة بلفريق هذا او ذاك ممن لعب ضد المنتخب السوداني بقدر ما هو مرتهن عندي بما يلينا (داخليا) كسودانيين، واعني بذلك حالنا السياسي ومايعيشه الوطن منذ العامين او الثلاثة الماضية.
الناس على اجمالهم وفي كل الاوطان يرددون العبارة (كُلُّ شيء يهون في سبيلِ الوَطن)، هذه العبارة تستعين بها الشعوب صبرا على الخطوب والمصائب التي تحيق بالاوطان، لكننا في السودان -وللأسف- مافتئ تعريف الوَطن عندنا خاطئا او بالاصح غامضًا في الأذهانِ والعقول، وقد لاتجد التعريف الصحيح إلا عند قلة منا، علما بأن الوطنُ قبل ان يكون ترابا فهو في المقامِ الأول بشر، اذ أن مَقام البشرِ سابق على الحدودِ والقيود، وقد كرم الله ابن آدم وجعل شأنه اعلى واسمى من بيته الحرام والمقدس، فإذا أصبح الناس في هوان؛ هان الوَطن وخزي بلا جدال.
نحن كسودانيين اصابنا الهوان نتاج تفشي كره غير مبرر زرعناه في أنفسنا لبعضنا البعض مع سبق الاصرار والترصد، انه كره للوطن بما فيه يوم ردد شاعرنا قبل عقود من السنوات بأن: (ملعون ابوك وطن)!
ابحثوا عن قائلها لتتبينوا بانه يساري!
ثم استعرضوا مئات بل ألوف الهتافات الحقودة والسياقات التي لاتشي بوطنية ولا عافية في دين ولاخلق ولا قيم والتي تم تلقينها للشباب وصغار السن خلال الثورة الأخيرة من امثال: (أي كوز ندوسو دوس)!، هل ذلك يشي بعافية في الوعي المجتمعي لدينا؟! وعلى ذات النهج كانت بقيت تسمية حزب فينا بالحركة الشعبية ل(تحرير السودان)، فهل تبين أهل السودان عن ماذا يتم تحرير هذا الوطن؟!، وحتى بعد نجاح الثورة إذا ب(فئام) يصرون على احدى التسميات ب(لجان المقاومة)! هل سألنا أنفسنا عن ماهية هذه المقاومة وقد نجحت الثورة واستوزر من أراد؟! ونتاج ذلك وسواه كثير تفشى فينا الكره والحقد والاقصاء، وإذا بالتطاول والاساءات تطال الاساتذة والمربين في الجامعات والمدارس، واذا بها تطال الناس في الشوارع دون أي مسعى او اهتمام من الواجهة والقيادات التي كانت (تسوق) المتظاهرين لايقاف ذلك ولو ببيان او لفت نظر، وظلت الهتافات الزارعة والباعثة للكره تصنع في الغرف الاعلامية ليتم توزيعها ومنها: (علي عثمان ياككو، كتايب الظل جرت ام فكو)، وغير ذلك كثير، ثم طال الأمر الجيش والقوات الأمنية بأن: (معليش ماعندنا جيش)، و(كنداكة جات بوليس جرا)، وذلك مدعوم ومسنود بنشرات ومواقف من واجهات مثل تجمع المهنيين يعلن فيها الرفض التام للتعامل مع الجيش بل والسعي للكيد له والتخذيل عنه وهو يحارب هذه الأيام باسم السودان في الفشقة!، ولم يستثن زرع الكره حتى الدين ومسلماته، والاستهانة بالمصطلحات وابتذالها، فاصبح الشهيد الذي يتم الترحم عليه هو الذي مات منذ عام 1989 وكأن بقية الشهداء منذ استقلال السودان ليسوا سودانيين، اسبروا غور ذلك لتتبينوا من الذين سنوا تلك السنة السيئة واقصوا حتى سعداء السودان عن الدعاء وعلموا ذلك للابناء والبنات؟!
وكذلك ظهر الطعن في تأريخ الإسلام عندما كتبوا شعارات وهتافات مثل (يسقط صلح الحديبية) ليرفعها أطفال وصغار سن!
وهل نسي أهل السودان التطاول على شرف نبينا صلى الله عليه وسلم فكان الاجماع بطرد الحزب الذي فعل ذلك من البرلمان؟!
فالنهج قديم، وانها لاجندة احزاب بعينها، وهي اجندة مع سبق الاصرار والترصد!.
فقد سعى اليسار بكل ما اوتي من كوادر اعلامية ومال ومنابر إلى شيطنة الاسلاميين ودمغهم بكل الموبقات، ولم يتورعوا في سبيل ذلك عن التلفيق والكذب، ومازالت قصة ال67 مليار دولار التي ذكروا -حتى- مكان الدول والبنوك التي توجد فيها، ثم يعترفون بعد ذلك بكذبهم، بأمثال كل ذلك تمت الشيطنة، وبذلك سعوا الى غسل ادمغة الشباب وسوقهم بالخلا!
وكلنا شاهد المقاطع التي قال فيها احد قياداتهم وعلى الملأ (ايوة نحنا عاوزين نبدل تمكين بي تمكين وماخايفين من زول والماعاجبو يشرب من البحر)، وقالت احدي القياديات (نحنا فعلا محتاجين لي دم وقتلى عشان تنجح المواكب)!
هكذا تمت صناعة الكره والحقد وبثه في المجتمع السوداني، بينما ظلت لحمة المجتمع محافظ عليها من قبل أعوام (القحط) الثلاثة الأخيرة، وحينها كان يسمح للاحزاب عقد مؤتمراتها القاعدية والقيادية وحراستها في قاعة الصداقة وغيرها!
عندما كنت اشاهد السيد وجدى خلال مؤتمرات أو بالاصح مسرحيات لجنة تفكيك التمكين الصحفية ومايبديه خلالها على وجهه من سيماء الكره والحقد وهو يبدل نضاراته ثم يتبع ذلك بعبارته (سيصرخوووون)، تذكرت قصيدة عنترة بن شداد التي يقول فيها:
لا يَحمِلُ الحِقدَ مَن تَعلو بِهِ الرُتَبُ
وَلا يَنالُ العُلا مَن طَبعُهُ الغَضَبُ.
واذا بي أشاهده بالأمس في لقاء على الجزيرة مباشر وقد تبدل الحال واذا بالتأتأة والارتباك يتخلل اجاباته، ياترى هل تبين معنى قول عنترة؟!
مشاهد وجدي تلك كم فعلت فعلها في قلوب ووجدان الناشئة، لقد بث من الكره والحقد الكثير في قلوب الشباب وسيسأله الله عن كل مايقر في وجدانهم من سلب لايؤسس لوئام في مجتمعنا السوداني، سعى لكل ذلك بينما حجم الفساد الذي اوغر به صدورهم لم ير الناس منه سوى عدد من قطع الاراضي لجمال الوالي والحاج عطا المنان!
وكذلك لن انس اسلوب العديد من القيادات في تجمع المهنيين وقوى الحرية والتغيير، وجلهم -ان لم يكن كلهم- من (صبية اليسار) وما كانوا يفعلونه من بث للكره والحقد في المنابر الاعلامية التي اتيحت لهم!
ذاك لعمري هو الذي اركسنا واصابنا بالهوان، بالله عليكم هل ننتظر من لاعب كرة قدم او سواه من يلعب لأجل هذا الوطن الذي يبتذله هؤلاء ان كان بجهل او تفيذ لاجندة حزبية دون وعي ولاوطنية؟!
هاهي الاوطان من حولنا نهضت بعد أن قتل فيها الملايين من الهوتو والتوتسي، فإذا بالعقلاء واهل الوعي فيهم يسعون بين الناس وئاما وتضميدا للجراح، وأصبحت دولة رواندا في طليعة دول افريقيا خلال اعوام قلائل!
أسأل الله ان يبرم للسودان أمر رشد يعز به أهل الرشد والوعي والوطنية، ويخذل به الساعين بين اهله بالكره والحقد، انك ياربي ولي ذلك والقادر عليه.
adilassoom@gmail.com