-١-
تابعت بمتعة فائقة إفادات الدكتور مهاتير محمد ،صانع ماليزيا الحديثة، في برنامج المحاور البارع أحمد منصور بقناة الجزيرة.
لفت انتباهي حديثه: عن كيفية تعاملهم مع الشركات اﻷجنبية الاستعمارية، عقب استقلال ماليزيا.
قال مهاتير إنهم كانوا حريصين على عدم انهيار تلك الشركات واهتزاز أوضاعها في السوق، فقد كانت تحقق فوائد كبيرة للاقتصاد الماليزي.
كان قرار السلطة الجديدة عدم تأميم تلك الشركات أو تصفيتها أو نقلها ﻹدارة ماليزية وطنية.
تركوا الشركات تحت إدارة المستعمرين ، رغم إعلان الاستقلال، وفي تلك الفترة عملوا على تأهيل كوادرهم الوطنية في الجامعات والمراكز الغربية.
إضافة لذلك ،جمعوا أموالا طائلة من مواردهم الوطنية، وما إن تمت عملية تأهيل الكوادر وجمع المال، وحانت ساعة الصفر.
قامت الحكومة الماليزية بغزوة
اقتصادية مباغتة على بورصه لندن، عرفت وقتها بغارة الفجر.
وما إن أتى النهار ،إذا بكل أسهم الشركات الانجليزية تم شراؤها من قبل الماليزيين !
وترتب على ذلك انتقال سلس للشركات الكبرى ،بلا خسائر ولا آثار جانبية ،من المستعمرين للحكومة الوطنية.
-٢-
كان بإمكان النخبة الماليزية التي آلت إليها مقاليد السلطة، أن تستخدم الشرعية الثورية ،فتصادر تلك الشركات وتضع يدها عليها وبكل تأكيد كانت ستجد تأييدا وطنيا كاسحا.
ولأن القيادة كانت حكيمة وواعية ومبصرة للمآلات ،وغير راغبة في شراء تأييد سياسي بأي ثمن ، ولا تصفية حسابات، قدمت المصلحة الاستراتيجية العليا، على المكاسب التكتيكية المؤقتة.
الدول في مراحل الانتقال تحتاج لقيادات على قدر كبير من المسؤولية والتجرد والحكمة واتساع الرؤية وبعد النظر .
ما كان لماليزيا أن تخرج من مستنقعات التخلف لولا رؤية المعلم مهاتير محمد.
وليس بمقدور جنوب إفريقيا أن تتجاوز حقبة الفصل العنصري لو لا تسامح مانديلا وحكمة دكلير .
وما كان لرواندا أن تنهض من بين اﻷشلاء والدماء لولا على رأسها بول كغامي.
قارن عزيزي القارئ ،بين ما فعله مهاتير محمد وصحبه ،وما اقترفه جعفر نميري ورفقاؤه ،إبان لوثته الاشتراكية عبر تطبيق قانون التأميم عام ١٩٧٠.
-٣-
على لجنة إزالة التمكين ومحاربة الفساد أن تضع امام أعينها النموذجين السابقين (مهاتير-نميري).
محاربة الفساد وتفكيك كل ما بني على باطل واجب وطني وثوري وأخلاقي، التقاعس عنه إجرام في حق الشعب وتجاوز لمطالبه الملحة.
مثل ذلك المشروع يحتاج للحكمة والبصارة والدقة الجراحية الماهرة ،وقبل ذلك نظافة اﻷيدي وسلامة النوايا واستقامة الأخلاق.
-٤-
حتى لا ترجح الخسائر على المكاسب وتفسد الشعارات بسوء التطبيق وتلوث الجراح بالمشارط غير المعقمة ويصبح العلاج أخطر من المرض!
محاربة الفساد لا تقتضي الحماسة الثورية فقط، وامتلاك روادع السلطة، ولكنها تحتاح مهارات جراحية فائقة، لتجنب الأثار الجانبية المدمرة .
مهارة تمكنكم من استئصال الأورام السرطانية، دون إلحاق ضرر بالأعضاء الحيوية.
إجراءات تردع الفاسدين وتنتزع ما نهبوه ولكن دون أن ترهب المستثمرين وتفسد مناخ الاستثمار .
ذلك بالترخص والتساهل في انتهاك الملكية الخاصة، عبر قرارات إدارية مسيسة، لا إجراءات قانونية عادلة ومنصفة.
-أخيرا-
الإجراءات العدلية التي تؤسس قواعد دولة القانون، قد لا تحقق نشوة اللحظة الثورية وتحظى بالتصفيق ،ولكن حتما ستفوز باحترام التاريخ ورفع قبعات الأجيال القادمة.
صحيفة السوداني