حديث المدينة – السبت 23 أغسطس 2025
زمان، في المدرسة، كان جدول الحصص محددًا من بداية الفترة الدراسية حتى نهايتها.. نحو ثلاثة أشهر، ثم امتحانات، وبعدها فترة ثانية بجدول حصص ثابت حتى نهاية العام الدراسي. كان الجدول مسجَّلًا بدقة ومعلومًا للطلاب والمعلمين وإدارة المدرسة.
لكن أحيانًا يختلّ الجدول، عندما يتغيب معلم لعذر قاهر، فتتردد العبارة الشهيرة بين التلاميذ: “الحصة فاضية”. وفي هذه الحالة تكون الخيارات واضحة.
قد تطلب إدارة المدرسة أو مشرف الفصل من معلم معيّن أن يملأ “الحصة الفاضية”. وربما يكون من نفس التخصص فيحاول استكمال الدروس من حيث توقف زميله، أو من تخصص مختلف فيغتنم الفرصة ليُدرِّس مادة تخصه. وأحيانًا لا هذا ولا ذاك، فيلجأ المعلم إلى الدردشة مع التلاميذ في موضوعات شتى، وهو يكرر النظر بين الحين والآخر إلى ساعته كالحكم في الدقائق الأخيرة من عمر المباراة.
خلال 12 سنة في مرحلة التعليم العام (ابتدائي + ثانوي عام + ثانوي عالٍ)، مرّت علينا حصص “فاضية” كثيرة.. لكني لا أتذكر منها شيئًا إلا واحدة فقط.
كنا في مدرسة حلفا الجديدة الأميرية، في السنة الأولى. غاب أستاذ الدين، فحلّ محله أستاذ الجغرافيا “مكي”. كنا نتوقع أن يحوّلها إلى حصة جغرافيا أو إلى دردشة كما جرت العادة. لكن المفاجأة كانت مزدوجة: لا جغرافيا ولا حتى حصة دين تقليدية!
جاء الأستاذ “مكي” يحمل معه المصحف، فتح سورة البقرة، وبدأ يتلو آية بعد آية ثم يشرحها بإسهاب. كنا ننظر إليه بدهشة: ما علاقة الجغرافيا بالدين؟ وكيف يسترسل أستاذ جغرافيا في شرح سورة خارج المقرر تمامًا؟
رغم مرور السنين، ما زلت أراه أمامي بطوله الفارع، ممسكًا بالمصحف وهو يتحرك أثناء حديثه أمامنا بعرض الفصل، وتارة يمر بين الصفوف حتى آخره، يتلو آية ثم يشرح معناها بتفصيل عجيب. كنا ننظر إليه بانبهار كأنما جاء بعمل خارق.
بصراحة، الآن لا أتذكر إطلاقًا من كان أستاذ الدين، صاحب الحصة الأصلي، ولا أتذكر المقرر نفسه، لكني أتذكر أستاذ “مكي” و”الحصة الفاضية” التي ملأها.. وأحفظ كل كلمة قالها في شرح سورة البقرة. بل كلما مررت بالسورة ارتسمت في خيالي صورته وتذكرت شرحه للآيات.
لقد كسر أستاذ “مكي” الصورة الذهنية التي عششت في عقولنا الصغيرة: أن أستاذ الدين هو “مولانا” الذي – علاوة على إهماله في الملبس أو إصراره على الجلابية – يجعل الدين يبدو لنا كأنه ضرب من الخيال العلمي الممزوج بمسلّمات محروسة بالقدسية، مكتوب عليها: ممنوع الاقتراب والتفكير.
المقررات الدراسية رسمت لنا دينًا آخر في أذهان الصغار، لا يشوِّش فقط على الإسلام، بل حتى على الفهم العام للحياة. وهكذا تنشأ حالة انفصام شخصية مستترة؛ متنازعة بين احترام وتوقير الدين، وممارسة الحياة الطبيعية باتساق.
إن القدسية التي تُضرب بسياج صارم لمنع الفكر والتفكير خارج الأسوار المصنوعة، تُعطِّل قدرات كبيرة وتكبت إبداعًا إنسانيًا عظيمًا.
نقلا عن – صحيفة التيار