السودان على “ابواب جهنم“
محمد حسين ابو الحسن
بطريقة بشعة “داعشية”، جرى اختطاف واغتيال والي غرب دارفور في السودان، خميس أبكر، الخميس الماضي. وحمّلت القوات المسلّحة عناصر الدعم السريع المسؤولية عن مقتل أبكر، الرجل الذي لم تكن له علاقة بمجريات الصراع الدائر منذ شهرين بين الطرفين. الخوف يتسرّب إلى النفوس من أن يفجّر قتل أبكر برميل بارود الصراعات القبلية والمناطقية، على هامش الصراع الراهن بين الجيش السوداني والدعم السريع. وضع كارثي قد يجرّ السودان إلى حرب أهلية على غرار ما حدث في “رواندا”، أما الأخطر فهو أفول الدولة السودانية وتمزّقها إلى دويلات متحاربة. اغتيال “أبكر” صندوق باندورا جرى فتحه، ولا أحد يعرف كيف يمكن إغلاقه!.
القتل بدم بارد
أتى مقتل خميس أبكر بعد ساعات من تصريحات اتّهم فيها قوات الدعم السريع بـ”تدمير” مدينة الجنينة، حيث كان يقيم، مضيفاً أنّ المواطنين يُقتلون بطريقة عشوائية وبأعداد كبيرة، والجرحى لا يجدون علاجاً، فلا يوجد مستشفى، ووصف “الجنينة” بأنّها “منكوبة… مستباحة كلّها… كلّها دُمّرت.
هذا شعب تمّ قتله بدم بارد بأعداد كبيرة جداً، بالآلاف؛ نحن بحاجة إلى تدخّل حاسم من المجتمع الدولي لحماية ما تبقّى من الأرواح في هذه المنطقة”.
خميس أبكر هو أحد زعماء حركات التمرّد الموقّعة على “اتفاق جوبا للسلام، مع الحكومة عام 2020، سعياً لوضع حدّ لنزاع في الإقليم.
اغتياله بهذه الوحشية تطوّر خطير للصراع المسلّح في السودان الذي انطلقت شرارته في 15 (أبريل) الماضي، ويُنذر باستعار الخلافات العرقية- القبلية وتأزّم الوضع الإنساني، في ظلّ الالتهاب الأمني في البلاد، لاسيما غرب دارفور.
كما أعاد التذكير بالمآسي والفظائع التي عاني منها أهالي دارفور أثناء حكم الكيزان الذين صنعوا ميليشيا الجنجويد، وفرّقوا بين أهلها بحسب اللون والعرق. كان رئيس بعثة الأمم المتحدة في السودان فولكر بيرتس حذّر من أنّ أعمال العنف التي يشهدها إقليم دارفور قد ترقى إلى “جرائم ضدّ الإنسانية”، بينما أعلنت المنظّمة الدولية للهجرة، أنّ عدد النازحين جراء النزاع السوداني وصل إلى 2.2 مليون شخص.
يؤشر مقتل “أبكر” إلى تفاقم الصراع المسلّح وفشل جهود التهدئة وانفلات العنف، ما قد يُنذر بتفكيك السودان وتقسيمه إلى دويلات صغيرة متقاتلة، وتفتّت الدولة المركزية التي عاشت نحو سبعين عاماً، ما دامت حرب الاستنزاف بين الجيش السوداني والدعم السريع ومَن وراءهما. ولو ألقينا نظرة على التحليل الجيوسياسي للسودان منذ الاستقلال، نجد أنّ الحكومات المتعاقبة لم تنجح في معالجة جذور الأزمات المتشعبة، لاسيما المتعلقة بالعامل الجغرافي والديموغرافي الذي لعب دوراً أساسياً في تحديد مسار الصراعات السياسية، وتكريس الأحادية الثقافية والاجتماعية والدينية والأيديولوجية.
السيناريو الأسوأ
ما يجري في السودان ليس صراعاً داخلياً محضاً، بل تشترك فيه أطراف خارجية، لكل طرف دوافعه وأهدافه وحساباته التي تجد فرصتها أكثر في استمرار العنف والفوضي في السودان منها في هدوئه واستقراره وعودة الأمن إليه، وهذه هي المرّة الأولى التي تخرج السلطة عن أيدي المركز (الخرطوم) إلى بعض الولايات، وتتعمّق الانقسامات؛ ما يؤثر على تماسك اللحمة السودانية والهوية الوطنية، حيث يواجه هذا البلد عدداً من المسارات المحتملة، مع تعثّر جهود السلام التي تقودها الولايات المتحدة، ما قد يفتح الباب أمام تدخّلات عسكرية خارجية مدمّرة لقوى إقليمية أو دولية.
حتى الآن، لم يستطع أي طرف أن يحسم المعركة لمصلحته، لا مؤشرات إلى توقف القتال، ولا دليل على تفوّق فريق على آخر، ولا على جنوح أي منهما للتفاوض الحقيقي، في حين ينحصر دور المجتمع الدولي في المناشدات والمطالبات، من دون تدخّل جدّي لوقف الحرب. الهُدن التي تمّ الاتفاق عليها منذ اندلاع الصراع تمّ خرقها مراراً.
تقسّم المعارك الولايات السودانية إلى مناطق خاضعة لنفوذ كلا الطرفين، ما يثير الجدل حول السيناريو الأكثر قتامة، ويتمثل في دولة مقسّمة، يسيطر فيها الجانبان على مناطق مختلفة، لا يستطيع أي منهما تحقيق نصر كامل، ما يؤدي إلى انهيار مؤسسات الدولة، وتعاظم التدخّلات الخارجية. تعدّدت سيناريوات الأزمة السودانية ومآلاتها، لكن سيناريو التقسيم “الأسوأ” يلوح في الأفق، ما لم يثب القوم إلى رشدهم. حتى اللحظة لا دليل واحداً على أنّ الفريقين المتحاربين سيتوقفان قريباً عن الاقتتال، شراسة الحرب تؤكّد ذلك، كما أنّ تزايد أدوار التحالفات الإقليمية والدولية في الأزمة يمثل بعداً آخر للصراع الدائر بين الدعم السريع والجيش السوداني، ويرسّخ حالة الانقسام على الأرض.
يدفع السودان ثمن التدخّلات الخارجية والصراعات على خيراته، فأميركا وروسيا والاتحاد الأوروبي وبعض الدول الإقليمية، تتصارع لنيل ما تقدر عليه من فوائد، مستغلةً الصراع القائم. كل هذه القوى لها حسابات ومصالح؛ فلا يمكن إنكار حقيقة أنّ السودان “جائزة جيوسياسية” مهمّة، فهو يطلّ على أكثر ممرات الشحن ازدحاماً على البحر الأحمر، ويمتلك احتياطيات غنية من الذهب والمياه والنفط. هذه الحقيقة أدركتها روسيا قبل سنوات، ووضعت بموجبها السودان ضمن دائرة اهتماماتها، وتجلّت الرغبة الروسية في بسط نفوذها في السودان من خلال الحديث الدائر عن اشتراك مجموعة “فاغنر” في القتال إلى جانب الدعم السريع. كما أنّ الصين حاضرة بقوة في البلاد، منذ عصر عمر البشير، وتحاول استثمار إمكانات السودان لترسيخ أقدامها في وسط أفريقيا والقرن الأفريقي.
جائزة جيوسياسية
تعمل الصين وروسيا على تقويض النظام العالمي الذي تتزعمه الولايات المتحدة، وهو ما تسعى أميركا لمحاربته بشتى الطرق، والتصدّي للتمدّد الصيني- الروسي، بالعمل مباشرة مع الحلفاء الذين يمكنهم الإسهام في تحقيق أهدافها من بين القوى الإقليمية المختلفة.
وبالمثل تعمل القوى الأوروبية المختلفة (الاستعمار القديم) على تحقيق مآربها في هذا البلد ذي القدرات الهائلة.
هذا التنافس الدولي يؤجّج صراعات هامشية تطيل أمد الصراع الرئيسي، وتحول دون التوصل إلى تسوية نهائية بين الجانبين المتقاتلين، أو قد يؤدي إلى دخول أطراف سودانية أخرى حلبة المعركة. الضريبة الأمنية لكل ذلك سوف تكون فادحة على السودان ودول الجوار والشرق الأوسط وأفريقيا، بدرجة يصعب احتمالها أو الصمود في مواجهة أخطارها؛ فالسودان بموقعه الجغرافي الاستراتيجي الحساس، هو أحد المفاصل الحيوية بمنظومة الأمن القومي العربي والأفريقي والبحر الأحمر، وإشعاله بالصراعات هو أسوأ وأخطر السيناريوات.
سيصبح السودان بؤرة لصناعة وتصدير الإرهاب والفوضى والعنف إلى كل المنطقة، كما أنّ إغراقه في أوضاعه المتدهورة يتيح لدولة مثل إثيوبيا، استكمال مخططاتها بالتحكّم والسيطرة في النيل الأزرق وإكمال وتشغيل “سد النهضة” بقرار أحادي، وإقامة سلسلة سدود مماثلة، تضرب الأمن المائي للسودان ومصر في الصميم؛ ما يفتح “أبواب جهنم” على البلدين، في صورة أزمات وجودية حادّة وعاصفة.
يحاول كل من الجيش السوداني وقوات الدعم السريع استخدام شبكة حلفائهما لحسم الصراع بينهما، في “معركة صفرية”، يتكشّف عوار منطق “اتركوا السودان لأهله يحلّون مشكلاتهم”.
على الدول العربية والأفريقية مسؤولية أخلاقية وإنسانية وسياسية واستراتيجية للتحرّك بشكل أكثر كفاءة وقدرة للجم الصراع، فالخاسر الأكبر هو الشعب السوداني، الذي يعاني الحرب والجوع واللجوء والكوارث الإنسانية، وهي كوارث لن تتوقف عند السودان وحده.
يقول الروائي “جورج أورويل” محذّراً: “لغة السياسة صُمّمت لجعل الأكاذيب تبدو صادقة والقتل يبدو محترماً!”.
النهار العربي