ليس خافياً على المهتم بالشأن السوداني ظاهرة الاصطفاف التي تنشط في الساحة السياسية السودانية بالتحالفات التي أسست لتصاعد صراع سياسي شرس بين الأحزاب عبر التكتلات السياسية التي صارت واقعاً عملياً تحت أهداف متباينة جميعها يصب في خانة المناداة بتأسيس سلطة مدنية كاملة، حيث اتسمت المرحلة مابعد خلو منصب رئيس الوزراء باستقالته بالارتباك فانهمر سيل المواثيق السياسية المطروحة بديلاً للوثيقة الدستورية التي تأسست عليها الشراكة بين المكوِّن العسكري وقوى الحرية والتغيير، لكن بلا نتائج فعَّالة مقبولة ومؤثرة على مجمل المشهد السياسي المرتبك نتيجة عدم مقدرة القوى السياسية على ترتيب أوراقها قبل الدخول في تحالفات ما جعلها قائمة على الحد الأدنى من التوافق وكان آخرها تحالف قوى التغيير الجذري بزعامة الحزب الشيوعي الذي بدأ تتساقط كثير من مكوناته التي تبرأت منه مثل الحركة الشعبية بقيادة الحلو وحركة تحرير السودان عبد الواحد محمد نور.
تظهر الساحة السياسية السودانية الآن بمشهد تجاذبات بين نظام قديم تمثله أحزاب سياسية إسلامية مع حلفائها من الأحزاب المتشظية تستميت في البقاء والصمود في مواجهة التغييرات التي تطالب بها القوى الثورية وبين نظام جديد يتشكل من رحم ثورة شابة تحاول الأحزاب السياسية التكيف معها كواقع الجديد بهدف إعادة إنتاج نفسها من خلال الالتصاق بالقوى الشبابية التي تتحكم في الحراك (المظاهرات) عبر لجان المقاومة التي كشفت عن رفضها الصريح لتلك النخب القديمة التي ترى أنها فلشت في إدارة المرحلة الانتقالية بعد توليها السلطة بالشراكة مع المكوِّن العسكري فى أعقاب سقوط الإنقاذ وتبيِّن أن النخب القديمة التي يمثلها تحالف قوى الحرية والتغيير لا تمتلك مشروعاً واضحاً لتحقيق أهداف الثورة على مدى عامين من عمر المرحلة الانتقالية، وانتهت بقرارات 25 أكتوبر من الفريق البرهان التي طبعت المشهد السياسى بقدر كبير من عدم الوضوح رغم أن البرهان عدها تصحيحاً وعدها البعض انقلاباً، في الوقت الذى بدأت فيه لجان المقاومة مرحلة جديدة من الثورة وهي مرحلة حشد الشارع تحت راية اللاءات الثلاث الرافض لأي تقارب مع المكوِّن العسكري مع رفض خفي للتقارب مع القوى السياسية.
في خضم هذا المشهد المرتبك بزرت المبادرة الثلاثية التي قادها الاتحاد الأفريقي ومنظمة إيقاد يتزعهما رئيس بعثة يونتامس فوكلر، وتعرَّضت لانتقادات حادة ورفض شعبي ما يجعلها تتحوَّل لعملية مسهلة انتهت في مائدة مستديرة تمت مقاطعتها من قبل قوى الحرية والتغيير لكونها تضم عدداً من المسؤولين والأحزاب والتكنوقراط الذين الذين كانوا متماهين النظام السابق ليعلن بعدها المكوِّن العسكري انسحابه من المشهد السياسي وإخلاء طرفه.
الآن هناك تساؤلات عديدة حول من يتحكم الآن في المشهد السياسي ويشكِّل رؤى إدارة المرحلة الانتقالية في ظل الجدل حول عدم وجود نخبة قادرة على قيادتها تستوعب وتواكب الحراك الثوري الشبابي الذي يستهدف إحداث تغيير في المنظومة السياسية والاجتماعية القائمة نحو الأفضل عبر عملية الفرز التي أحدثتها ثورة ديسمبر بين النخب السياسية الجديدة التي تصارع للصعود والنخب القديمة من أجل البقاء وقد بدت عاجزة عن فهم إرادة الشباب الذين يشكلون نخبة جامعية مثقفة راغبة في التغيير الجذري وقد أبدى رئيس بعثة يوينيتامس فولكر بيريتامس، إعجابه بالشباب الناشطين في لجان المقاومة، وقال في تدوينة على صفحته الرسمية قد تكشف له من نقاشه مع عدد من الشباب الناشطين في لجان المقاومة وأسئلتهم ومقترحاتهم للأمم المتحدة تحليلهم الواقعي، ووجهات نظرهم الواضحة، ومنظورهم طويل الأمد.
وقال المحلِّل السياسي والكاتب الصحافي أحمد يوسف التاي، لـ(الصيحة) الآن هناك تخبط وغياب رؤية سياسية متكاملة تقود المشهد السياسي .
وبطرح سؤال حول من يتحكم الآن في المشهد السياسي ويشكِّل رؤى إدارة المرحلة الانتقالية في ظل الجدل حول عدم وجود نخبة قادرة أجاب التاي: إن الذي يتحكم في مشهد السياسي ذلك الذي لديه القدرة على صناعة الأحداث ويتحكم في توجيهها للناحية التي يريديها، والمتابع للساحة السياسية والقارئ لما وراء سطورها يتكشف له بوضوح ليست هناك جهة بعينها تتحكم في المشهد السياسي، وجميع الموجودين في الساحة السياسية الآن تائهين في حلقة مفرغة وتنطبق عليهم مقولة الشعبية في وصف المتخبط ( رائح عليه الدرب في الماء) .
وأضاف التاي في حديثه لـ(الصيحة): إن المشهد السياسي السوداني الآن عنوانه الأبرز التخبط والفوضى ولاتوجد جهة مؤثرة في المشهد الذي تكنفه حالة من السيولة والحركة المفرغة التي تدور فيها كل الأطراف، لكن رغم هذا يمكن أن نلحظ تأثير بقدر يسير من قبل بعض التكلات مثل قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي ولجان المقاومة يقابله قليل من الأثر من قبل قوى الحرية والتغيير الميثاق الوطني وجميعها غير متحكمة في المشهد، بجانب قوى جديدة ممثلة في الإدارة الأهلية والطرق الصوفية التي دخلت حلبة المبادرات وعاد التاي للتأكيد بأن المشهد السياسي (مايع) – على حد قوله وقد تفرَّق دمه بين القبائل السياسية المتصارعة وأصبح من الصعب وجود جهة تتحكم في المشهد من بين كل المتحركين نتيجة الضعف الذي يعتري هذه القوى السياسية التي لا تملك رؤية واضحة وبرنامج ولا أرى قوى يمكن أن تمضي بالبلاد لبر الأمان .
وأشار التاي إلى أن رئيس البعثة الأممية فقد المقدرة على التحكم في توجيه البلد أو الساحة السياسية للوجهة التي يريدها وهو يريد أن تتحكم فيها جهة معينة لكن عاجز عن مساندتها لتصبح مسيطرة لأنه محكوم بحدود معينة في تحركه في الساحة السياسية السودانية لا يستطيع تخطيها بحكم القواعد الدبلوماسية، وأضاف فولكر الآن في أشد حالات ضعفه لدرجة جعلته عرضة للسخرية والتهكم من جهات كثيرة في المشهد السياسي.