الراى السودانى
حالة من اليأس والإحباط تسود منذ فترة، بين شباب ثورة ديسمبر 2019 في السودان، وأسر ضحايا مذبحة فض اعتصام محيط قيادة الجيش في الخرطوم، بسبب الإخفاق في تحديد المتورطين في هذه المجزرة وتقديمهم للمحاكمة.
ويصادف، امس الخميس، الثالث من يونيو مرور عامين كاملين على وقوع مجزرة فض الاعتصام، التي لقي فيها ما لا يقل عن 128 شخصاً مصرعهم، وأصيب المئات بجروح متفاوتة، فضلاً عن فقدان العشرات.
مهلة مستمرة
الوثيقة الدستورية التي تحكم الفترة الانتقالية، نصت على تشكيل لجنة وطنية للتحقيق في واقعة الفض، وتقديم المتورطين إلى المحاكمة. وفي أكتوبر 2019، سمى رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، رئيس وأعضاء اللجنة التي باشرت مهماتها بعد منحها مهلة 3 أشهر فقط، لتقديم تقريرها حول المجزرة واتخاذ إجراءاتها القانونية، لكن اللجنة ومع اقتراب كل موعد لتقديم ما توصلت إليه، كانت تطالب بالتمديد لها لثلاثة أشهر أخرى، حتى وصلت جملة مطالبتها في هذا الشأن إلى 6 مرات، ولم تخرج بعد بتقريرها النهائي. وفي آخر تصريحات رئيسها المحامي نبيل أديب، قالت اللجنة إنها بحاجة لثلاثة أشهر أخرى تنتهي في 29 أغسطس المقبل.
اتهام مباشر
وطوال الأشهر الماضية، وُوجهت اللجنة بعاصفة من الانتقادات بسبب ما عُد تباطؤاً في التحقيق، فيما اختارت “منظمة أسر الشهداء الثورة”، مقاطعة اللجنة تماماً، والمطالبة بلجنة تحقيق دولية. وفي 11 مايو الماضي، وجهت الأسر الاتهام مباشرة لنائب رئيس مجلس السيادة، قائد قوات الدعم السريع، الفريق أول محمد حمدان دقلو، المعروف بـ”حميدتي”، وشقيقه عبد الرحيم دقلو، بالتورط في فض الاعتصام.
ولم يقتصر السخط من تأخر إعلان نتائج التحقيق على الثوار وأسر الضحايا وحدهم، إذ وصل للحكومة المدنية برئاسة عبد الله حمدوك. والأخير اجتمع قبل أسبوعين مع رئيس لجنة التحقيق الوطنية نبيل أديب، لمعرفة المرحلة والنتائج التي وصلت إليها التحقيقات وأسباب تأخير إصدارها، بينما عمدت اللجنة إلى امتصاص الغضب، وذكرت أنها “لا تريد الاستعجال في إعداد تقرير لا يصمد أمام السجالات القضائية”، وتعهدت بتقديم تقرير دقيق بنسبة مائة بالمائة. وأعقبت اللجنة ذلك بنشر تقرير يوضح ما أنجزته خلال الأشهر الماضية، وكان أبرز ما ورد فيه الكشف عن التحقيق مع 500 شخص من الذين لهم علاقة بما جرى صبيحة فض الاعتصام، فضلاً عن الاستماع لشهادة 3 آلاف شخص، وجمع 300 مقطع فيديو للحادثة. وشملت قائمة الذين تم التحقيق معهم كل أعضاء المجلس العسكري الانتقالي، الذي وقعت في عهده حادثة فض الاعتصام، ويشمل ذلك رئيس مجلس السيادة الحالي، عبد الفتاح البرهان، ونائبه محمد حمدان دقلو، إضافة إلى التحقيق مع قيادات في الأحزاب المدنية، ممن كانوا على تفاوض مع المجلس العسكري الانتقالي. وأوضحت اللجنة أن المتبقي من أعمالها قليل جداً، مقارنة مع ما أنجز، ووعدت بإكمال التحقيق مع من سقطت أسماؤهم في المراحل السابقة، وإجراء التقييم النهائي للبيانات وتحديد المسؤوليات.
التمرد على الشارع
واستبعدت اللجنة في تقريرها تطبيق ما تطالب به “منظمة أسر الشهداء” بتدويل قضية فض الاعتصام واللجوء للمحكمة الجنائية الدولية، مشددة على ضرورة منحها فرصة لتقول كلمتها، و”عدم القفز فوق قدرة السودانيين على تحقيق العدالة لأنفسهم”، لا سيما وأنّ السودان لم ينضم بعد للمحكمة الجنائية الدولية.
لكن كشه عبد السلام كشه، وهو والد الشهيد عبد السلام كشه الذي قتل صبيحة فض الاعتصام، قال إنّ هناك أكثر من سبيل لتدويل القضية، بعدما ثبت لهم كأسر ضحايا أنّ “الأجهزة العدلية والأجهزة التنفيذية غير راغبة وغير قادرة على محاسبة من تورطوا في فض الاعتصام؛ تنفيذاً وتخطيطاً”. وأكد، في حديثه معي، أنّ “المنظومة العدلية كلها بيد المكون العسكري في مجلس السيادة، إذ يسيطر حتى على تعيين رئيس القضاء والنائب العام”.
واعتبر كشه أن “لجنة التحقيق الوطنية مضيعة للوقت كسابقاتها من اللجان، وهناك معلومات عن أن النائب العام المكلف الجديد، مبارك محمود، سيضع يده على ملفات الشهداء، ما يعني البدء من الصفر، وهذا ما يريده المكون العسكري لشراء الوقت”. واستشهد كشة بقضية ابنه، مبيناً أنه دوّن شخصياً بلاغات جنائية في النيابة، متهماً فيها كل القوات التي شاركت في فض الاعتصام بقتل ابنه، في حين لم تتحرك القضية قيد أنملة حتى تاريخ اليوم، وفق قوله.
إسقاط قادم
وصبّ كشه جام غضبه على حكومة ما بعد الثورة، التي قال إنها “تماهت وانسجمت مع العسكر، ليكون نتاج ذلك المزيد من نزيف الدم، إذ شهدت البلاد حالات عديدة للقتل خارج إطار القانون، والاعتقالات والتعذيب للنشطاء والشباب”، مشيراً إلى مقتل اثنين من الثوار في 29 رمضان الماضي أثناء إحياء ذكرى فض المذبحة بالتقويم الهجري، ومقتل شاب داخل معتقلات قوات الدعم السريع نهاية العام الماضي، من دون أن يتم تقديم أي متهم للعدالة.
واعتبر كشه أنّ أمامهم طريقاً واحداً “هو إسقاط النظام بمكونيه العسكري والمدني”، ومن أجل ذلك، “شاركوا في الحراك الثوري أمس الخميس “لهزيمة خذلان المكون المدني الذي لم يعد جديراً بالاحترام، ومعه الحاضنة السياسية وكل الجهات التي تريد الانعطاف بالثورة السودانية التي دفع الشهداء دماءهم من أجلها”.
من جهته، لفت يوسف الفاضل، شقيق علي الفاضل، الذي قتل في مذبحة الفض، إلى وجود “عدم رضا عن كل ما تحقق بعد نجاح الثورة في شتى المجالات، على عكس تطلعات وأحلام الشعب السوداني، ولا سيما الضحايا”، مشيراً في حديث معي إلى أن “ملف العدالة هو أضعف الحلقات، ولم يتحقق فيه شيء، بسبب وجود ذات عقلية النظام القديم القائمة على القتل خارج إطار القانون”. وعلى عكس ما رآه كشه عبد السلام كشه، أقرّ الفاضل بوجود “مشكلات حقيقية واجهتها لجنة التحقيق الوطنية، ما صعّب مهمة الوصول للجناة”، منوهاً إلى أنهم كأسرة يلومون اللجنة لعدم تقديمها تطمينات بالوصول إلى الجناة في المستقبل.
وأبدى الفاضل قلقه من “انتشار خطاب الكراهية وحدّة الصراع السياسي على حساب مصلحة البلاد”، وطالب الجميع بـ”التسامي فوق الجراحات والاتفاق للخروج بالسودان من أزماته الحالية”، مؤكداً أنه “لو حدث ذلك التصالح، فإن عدداً من أسر الشهداء على أتم الاستعداد للحاق بركب المصالحة والعفو عن دماء أبنائها الذين لم يثوروا لشيء إلا من أجل مصلحة البلاد، وسلامها الاجتماعي، ومن أجل تغيير حقيقي في السودان”.
الثورة مستمرة
في الأثناء، أعلنت قوى سياسية وتيارات ثورية عن عزمها تحويل ذكرى فضّ الاعتصام إلى “حدث ينهي شراكة الدم بين العسكر والمدنيين”، وعلى رأس هذه القوى لجان المقاومة. ودشن عدد من لجان مقاومة ولاية الخرطوم، حملة على وسائل التواصل الاجتماعي، للتعبئة لتسيير مواكب في ذكرى فض الاعتصام الثانية، أمس الخميس. ولفتت لجان المقاومة في بيان لها في 25 مايو الماضي، إلى أنّ “الذكرى تمرّ وما تزال الأجهزة الأمنية تقتل في بنات وأبناء الشعب”، داعية إلى الخروج “لفض شراكة الدم التي أقعدت الثورة وشرعنت القتل ولم تقتص للضحايا، ولم تلاحق القتلة، ولم تزل تمكن الحزب البائد (المؤتمر الوطني برئاسة المتهم عمر البشير)، وذلك بتواطؤ تام من رفقاء الأمس”. وأشارت اللجان إلى أنه “لم يعد هناك فرق بين مدني وعسكري كليهما في الخندق نفسه”.
التجمع يعود
بدوره، أصدر “تجمع المهنيين السودانيين” الذي يعدّ دينمو الحراك الثوري، بياناً يوم الجمعة الماضي، قال فيه إنه “بعد عامين من التهاون والتسويف والتحايل والمراوغة من قبل هياكل السلطة الحالية تجاه مهام الثورة عموماً، وملف العدالة بشكل خاص، فإنّ على كل قوى المقاومة الشعبية والسياسية والاجتماعية والنقابية والمطلبية رصّ صفوفها وتشبيك جهودها، لفرض أجندة العدالة الانتقالية”. وطالب التجمع في بيانه، بـ”عزل العسكريين الموجودين حالياً في المجلس السيادي، واستبدالهم بممثلين من شرفاء القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى المنحازة لأهداف ثورة ديسمبر ومتطلبات التغيير الجذري في السودان”، وهو شرط يقول إنه “ضروري لإنفاذ العدالة، كون أن العسكريين في المجلس السيادي حالياً، هم أعضاء المجلس العسكري الانقلابي الحاكم عند حدوث مجزرة فض اعتصام القيادة العامة، والمتهم الأول في تلك الجريمة”. كما نادى بـ”تحويل التحقيق في جرائم فض اعتصام القيادة العامة واعتصامات المدن الأخرى إلى لجنة دولية عبر مجلس الأمن أو المحكمة الجنائية الدولية”.
تحليلات أخرى ترى أنه “وحسب مجريات الدعوات للحراك الثوري أمس الخميس، فلا خلاف بين مطالبات إسقاط الحكومة بشقيها العسكري والمدني، وبين المطالبات الجزئية المتمثلة في العدالة والقصاص، والحد الأدنى الذي يجب إنجازه هو إسقاط الشق العسكري”.
وتذهب التحليلات إلى أنّ “الحكومة المدنية ملامة من جانب الشارع، لأنها تتحمل مسؤولية تسهيل اختطاف الثورة بواسطة العسكر، وبالتالي تضييع العدالة، التي تعدّ أحد أبرز أركان الثورة السودانية”، واعتبر أنّ “العسكر ومنذ تسلمهم زمام الأمور بعد سقوط نظام الرئيس المخلوع عمر البشير في 11 إبريل 2019، لم ينحازوا للثورة، وعمدوا إلى خلخلة اعتصام القيادة العامة، وصولاً إلى فضه، وبالتالي هم مدانون بكل الجرائم؛ أخلاقياً وسياسياً في الحد الأدنى، إن لم يكونوا هم الذين أصدروا القرار بارتكاب تلك الجريمة”.