في جامعة بتسبيرغ الأمريكية أخضع الأطباء مئات الناس تتفاوت أعمارهم ما بين 55 و85 سنة لاختبارات عجيبة لفترات زمنية محددة، فكان نصفهم يكلفون بالسير على أقدامهم يوميا لمدد تتراوح بين 25 و40 دقيقة ثلاث مرات أسبوعيا، بينما
كان أفراد النصف الآخر يقضون الوقت ممددين على الكنبات والأسِرّة، يتفرجون على المسلسلات التركية والمكسيكية (هذه شطحة جعفرية).
المهم كان كل ما هو مطلوب من الفئة الأخيرة هو الاسترخاء التام طوال نفس المدد التي كان فيها أفراد المجموعة الأولى يمارسون المشي، ثم تم إخضاع أفراد المجموعتين لفحص لحجم الدماغ واتضح ان الجزء الذي يخص الذاكرة في أمخاخ من مارسوا المشي كبر وتمدد بنسبة 2%، بينما انكمش ذلك الجزء في أمخاخ التنابلة جماعة المسلسلات والراحات والتنبلة الذين كان مطلوبا منهم الاسترخاء التام.
بعبارة أخرى فإن المشي ينعش الذاكرة بينما عدم المشي يؤدي الى انكماش خلايا المخ التي تتولى تخزين المعلومات (الذاكرة)، وهي عموما – وعلى ذمة أولئك العلماء – تنكمش بنسبة 1,4% سنويا بوجه عام بعد سن الخامسة والخمسين.
ورغم أنني لم أبلغ ال55 بعد ولا أعتزم بلوغها في المستقبل القريب إذا مد الله في أيامي، لأنني مرتاح جدا في سن ال49 الذي ظللت “رابطا ومرابطا” فيه منذ “أسابيع”، رغم ذلك فإن النتيجة التي توصل اليها العلماء الأمريكان تعني أنني فقدت نحو 98,3% من ذاكرتي، لأنني متأكد من انني لم أقطع أكثر من خمسة كيلومترات سيرا على الأقدام طوال
العشرين سنة الأخيرة، بل لا اعتقد انني ومنذ ان أتيت الى منطقة الخليج قبل أكثر من 30 سنة مشيت على قدمي أكثر من 8 كيلومترات، والجزء الأكبر من تلك الكيلومترات، قطعته في يوم واحد، وكان ذلك في مدينة خليجية، وكنت وقتها أعمل في إحدى صحفها عندما نظمت منظمة الطفولة العالمية (اليونسيف) سباقا للجري في كورنيش المدينة، في
سياق حملة “إغاثة الطفولة”، وكان الآلاف يشاركون فيه، بشراء فانيلة (تي شيرت) بمبلغ معين لاستخدام الأموال لإغاثة الطفولة في عدة أماكن في العالم، وارتديت التي شيرت واصطحبت ولدي “غسان” وكان عمره وقتها نحو 8 سنوات، وكنت أعتزم السير لنصف المسافة بالخطوة المعتادة، كما الآلاف غيري ولكن بعض الشباب العازمين على الفوز بالسباق شقوا صفوفنا مندفعين الى الأمام فأفلت ولدي من يدي وجرى معهم.
كان عدد المشاركين في السباق نحو عشرة آلاف شخص، ووجدت نفسي مضطرا للجري للحاق بولدي وسط غابة السيقان وأنا أصيح: غسااااااان…
وكلما اقتربت منه زاد من سرعته وهو يحسب انني “أسابقه”، ولحسن حظي وجدت شخصا يعرفني “حق المعرفة”، قبل أن أسلم الروح، وطلبت منه اعتقال غسان وتسليمه لي في نقطة معينة، وجلست على الرصيف، وقلبي يكاد يقفز من فمي، وعدت بغسان الى البيت ولم أغادر البيت لأسبوع لأنني أصبت بالتهاب في الصدر والعين والحنجرة والكلى والكبد حتى الغدد الصماء عندي صارت “تصرخ”.
والشاهد هو أن إيقاع الحياة في الخليج لا يسمح بالمشي، وشوارع مدن الخليج مخططة على أساس أن الجميع يستخدمون السيارات للتنقل، ولا فسحات فيها للمشي الطويل، وبالتالي لا مجال لممارسة رياضة المشي إلا في مناطق مخصصة مثل الكورنيش على البحر، بينما الشوارع عندنا في السودان مخططة بحيث لا تصلح لا للسيارات ولا
للبشر، ويفسر هذا لماذا الانسان العربي ضعيف الذاكرة وبالتالي لماذا بقي القذافي في الحكم 42 سنة وعلي صالح 32 سنة وظل السوريون يعيشون في ظل قانون الطوارئ نصف قرن، ثم جاء في تلك البلدان ومصر وتونس، جيل جديد لم يجد فرص العمل فصار يمارس التسكع في الأسواق ولم تتعرض ذاكرته للانكماش فهب وثار فصرنا أمة من الثوار بعد أن كنا أمة من “الثيران”، وما زالت قافلة الشباب تسير حتى يتحقق ما هو منشود من مصير.
جعفر عباس
الشرق الأوسط