القرى المتحدة وصراع البقاء.. غضبة النيل تزلزل الاعمدة الخرسانية وتعصف بمنازل الجالوص بشمال بحري
استيقظت في صباح باكر يغالب النعاس عينيها ، بمهل نهضت من سريرها المهترئ ،لم تكن تدري بأن صلاة الفجر لم يحن ميقاتها بعد ، جرجرت رجليها ثم أنتصبت واقفة ، رجليها النحيفتين غاصتا في شيء لم تألفه من قبل ، ظنت في بادئ الامر ان حفيدها كعادته ترك (الماسورة ) مرسلة ، الظلام الدامس لم يمنكها من ان ترى بعينيها المرهقتين تلك (البحيرة) التي حاصرت المكان ، سور منزلها المشيد من الجالوص لم يقو على مقاومة ضربات الموج العاتية ، كل شئ تهاوى وهناك من يتمايل يمنة ويسرى إيذانا بالسقوط ، ضجيج الحي والانارات المبعثرة المرسلة من بعيد لم تفلح في إنذار حاجه (بتول )، لم يلفت إنتباهها كل ذلك العويل والصراخ ونداءات الإغاثة المتناثرة في ظلمة الليل ، ثمة شيء مريب يحدث بالقرية ، هي كانت تبحث جاهدة عن طريق يوصلها الى زاوية المنزل، حيث توجد (الماسورة) المتدفقة كما بدا لها ، وبينما هي كذلك سمعت من يناديها من خلف سور الجالوص الذي ما تزال بعض مداميكه الترابية تقاوم ضد الإنكسار، سمعت صوت جارتها (آمنة ) بأن اخرجي من المنزل ، العشرات من شباب القرية حاولوا جاهدين إخراج بعض الاثاثات من غرفتها النائية دون جدوى .(.فاض التنور) المياه بدأت دورتها في نهش الحوائط المهترئة ، رويدا رويدا إنفلج الفجرالذي تكشف خيوطه نسيج المؤامرة ، مؤامرة درج الاهالي هناك على تبديدها كل عام بتعاضدهم وادواتهم المتهالكة ، النيل الذي كان محل حفاوة عند قاطنيه اعلن غضبتة وألحق الاذى بكل جيرانه على إمتداد جريانه ووديانه وسهوله وهضابه.. (القرى المتحدة ) التي تراصت من الناحية الغربية للنيل شمال الخرطوم كعقد الماظ في جيد عروس ليلة زفافها لم تنجو من مداعبته الخشنة..!
القرى المتحدة
تقع مناطق القرى المتحدة شمال بحري بمسافة تبعد 22كيلو متر تقريبا وتتكون من (6) قري (الفكي ،هاشم ،الجعليين ، الدبة ،العبدلاب ،الخليلة جنوب وشمال وابوفريوة ) تربطهم اواصر إجتماعية قديمة ، ظلت هذه المناطق كل عام تهددها السيول والفيضانات التي دائما ما تقطعها عن العاصمة القومية ، الآن تعيش القرى المتحدة أسوأ حالاتها نتيجة الاجتياح الكامل من الفيضان، وكاد ان يلحق كارثة بالمنطقة لولا جهود وإستبسال المواطنين وسهرهم ليل نهار في مراقبة النيل بشكل دوري وإنشغالهم الدائم بتعلية التروس في كل المناطق المنخفضة على إمتداد النيل من الناحية الشرقية وعلى مسافة عشرات الكيلو مترات .
محاذير صحية وبيئية
فيضان النيل ألحق الضرر بعدد من الاسر السودانية وكانت مناطق وقرى شمال بحرى الاكثر تضررا حيث خلفت الفيضانات التي لاتزال تحاصر المئات من المنازل دمار بالمنازل والحظائر والمزارع والبساتين ، ورغم إنحسار النيل هناك الا ان الوضع البيئي ينذر بكارثة صحية مالم تتدخل السلطات المختصة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بيد ان المساحة المغمورة من المنطقة لاتزال تحتفظ بكميات كبيرة من مخلفات الماشية من روث ونحوه علاوة على إنهيار المئات من السايفونات التي ظلت تشكل خطرا على ارواح الاهالي فضلا مايترتب عليها من محاذير صحية وبيئية خطيرة .
تدفق المياه الى البيوت
السيدة (بتول) احدى المتضررات من الفيضان حكت لـ( الجريدة) تفاصيل ليلة مزعجة عاشها كل سكان المنطقة عندما داهمتهم مياه الفيضان وتسربت الى داخل غرف منازلهم دون إنتباه منهم ، ومضت كنت نائمة ليلة الفيضان ولم ادر شيئا لانني درجت على إلتزام المنزل بسبب المرض الذي ظل يلازمني لفترة طويلة ، واردفت كعادتي انام عند منتصف المنزل بالحوش خشية من سرقة اغنامي ، استيقظت لصلاة الفجر وعندما هممت بالنزول من على السرير لم اجد (سفنجتي )التي اظن ان مياه النيل قد إقتلعتها عنوة وجرفتها بعيدا عني ولم تك في المتناول وتمضى ظننت في بادي الامر ان حفيدتي تركت الماسورة (فاتحة) ،حاولت جاهدة ان اصل الى ركن المنزل حيث توجد الماسورة ،وبينما ان كذلك فإذا بجارتي آمنه تناديني من وراء سور المنزل المتساقط ، بأن اخرجي من المنزل ،وقتها داهم المنزل عدد من شباب الحي وحاولو إخراج بعض الاثاثات ولكن لم يسعفهم الوقت حيث إنهارت الغرفة على من بداخلها وهانذا كما تراني في العراء اتوسد الهم والآسى.
فيضان قياسي
معتز الخير احد شباب قرية الجعليين وهي احدى مكونات القري المتحدة …عضو لجنة الترس بالقرية قطع ان كل المناطق المتاخمة للنيل تضررت من فيضان هذا العام الذي الذي قال انه فاق كل التوقعات لافتا الى ان القرى المتحدة اضحت جزيرة معزولة لا يستطيع احد الخروج منها لجهة ان الفيضان يحاصرها من الجوانب الاربع، واشار الى انه تمت السيطرة الان على الموقف بفضل مجهود الشباب الذين واصلوا الليل بالنهار من اجل تقوية التروس داخل القرى ، وقال: إن العمل بالترس الترابي بدأ قبل سبعة اشهر من الان كخطوة إستباقية خشية تكرار فيضان الموسم الفائت.
وقطع ان فيضان هذا العام فاق كل التوقعات في كل بقاع السودان واوضح حتى الان قرية الجعلين لم تسجل اي خسائر سوى الخسائر الزراعية المتمثلة في المزارع والحظائر والبساتين منوها الى انه حال إنهيار اي ترس من التروس لم ولن يبقي كائن حي، لجهة ان الترس من الناحية الغربية والشرقية داخل الجناين مقلق جدا وهش وان كثرة المياه اضعفته بالاضافة الى ان تسريب المياه ادى الى هشاشة الترس من الداخل والخارج واصبح مكمن خطورة. ولفت الى انه بفضل خبرات الاهالي وكبار السن وصمود الشباب بغوصهم داخل الماء وزرع (الحطب ) من الداخل واستخدام جوالات الخيش المملوءة بالتراب لتثبيت الترس من الانفجار لحدث ما لا يحمد عقباه ، وجزم بان اهالي المنطقة ظلوا يواصلون الليل بالنهار منذ ما يقارب الـ(15) يوم مرابطين في حراسة الترس ، واردف الان نحن بحاجة عاجلة الى الجولات والاليات لجلب التراب لمناطق الهشاشة والضعيفة في ظل الحديث عن إرتفاع جديد للمناسيب بالمنطقة.
جهود جبارة
الباشمهندس محمد السر احد اعضاء لجان الترس بالقرى المتحدة بمنطقة الدبة العبدلاب لم يكن حديثه يختلف كثيرا عن ماذكره سلفه حول الاستعدادات المبكرة لاهل القرى جميعا واوضح ان جهود جبارة قامت بها اللجنة قبل موسم الفيضان كخطوة إستباقية لدرء المخاطر ومن اجل الإستفادة من تداعيات لكن كثرة المياه في هذا العام اربكت الجميع أردف ، لكن بفضل العون الشعبي استطعنا ان نصمد ولوبعد حين ،لافتا الى ان منطقة الدبة العبدلاب الان بها ما يقارب من العشر منازل هي الان بها كميات من المياه وايلة للسقوط في اي وقت من الاوقات مع تحطم اسوارها وتمت عملية إخلاء تام لتلك المنازل من اصحابها بالكامل.
استجابة ضعيفة
من الناحية الشمالية لمنطقة القرى المتحدة (الخليلة شمال) (الدفعاب ) تلك المنطقة السياحية الجميلة لم تنجو من غضب النيل الذي اجتاح الاجزاء الغربية منها ودخول المياه المنازل والازقة وغمرها بالمياه حيث تضرر(20)منزل بالخليلة ، حيث ارسل عدد من الاهالي نداءات إستغاثة عاجلة الى الجهات المسؤولة لتدارك الموقف قبل حدوث كارثة خاصة ان الخطر لايزال ماثلا مناشدين كل الجهات مد يد العون بالمبيدات الحشرية والامصال ضد الحشرات والبعوض خاصة وان هنالك اطفال صغار قد تنتج كثرة المياه نواقل بالامراض للمواطنين ونوه المواطنين الى ان الاستجابة حتى الان ضعيفة من تلك الجهات المعنية بدرء الخريف والفيضان خجولة.
عزلة
عمر عبدالله ابدى قلقه من تردي الخدمات ونقص المؤن والسلع الإستهلاكية اليومية وقطع ان القرى المتحدة اصبحت في عزلة عن محلية بحري بانقطاع الطريق الداخلي ( طريق المعونة) القومي الذي يربط المنطقة بمحلية بحري مما حال دون وصول سيارات البضائع الدخول او الخروج بإستثناء السيارات ذات الاحجام الكبيرة، لافتا الى ان الطريق الرئيسي تم إغلاقه تماما بالترس الترابي والجوالات حتى للحيلولة دون إجتياح المياه منطقة الفكي هاشم واضطر المواطنين استخدام الطريق الاخر الذي يذهب قرابة منطقة الكباشي ثم العودة مرة اخرى من الداخل للوصول لبقية القري، وهو طريق بعيد وفي نفس الوقت مكلف وتزيد قيمة تذكرة المواصلات فيه قيمة (100)ج وبرغم وجود هذا الطريق الان، إلا انه هو الاخر غمرته المياه تماما ليصبح الطريق الرئيسي والاحتياطي مقفولين وبالتالي إنقطعت القري المتحدة تماما عن العاصمة ، واردف هذا الانقطاع زاد من تكلفة الحياة الاقتصادية بنقص المواد الغذايئة والسلع بعدم دخول الناقلات الى القرى المتحدة مما احدث فجوة كبيرة في السلع الإستهلاكية اليومية.
مساحات زراعية مغمورة
ألحق مياه الفيضان خسائر زراعية وحيوانية وهذا ما اوضحه المزارع حاتم جعفر في حديثه لـ( الجريدة) بالقول :(هذه الفيضانات اقدار من الله وعلينا ان نتقبلها، لكن رغم ذلك هنالك إنعكاسات وآثار سالبة تقع على المواطنين و المزارعين بصفة خاصة ، الان كل الاراضي والبساتين تغمرها المياه وادى ذلك الى تلف كل المزروعات من خضروات وبساتين الجوافة والليمون وبقية الموالح التي يصعب حصادها الان، وقال (اجرنا العمال للقيط الثمار بقروش زيادة إلا انهم رفضوا) لصعوبة الحصاد في ظل إنتشارالثعابين والعقارب ،لافتا الى ان الوقوف من الحصاد في ميقاته يتلف كل الثمار في الاشجار وينعكس الان على سوق الخضر والفواكه بترك فجوة حيال هذه المحاصيل علاوة على التأثيرات الاخرى الخاصة بالتحضيرات عقب الفيضان في الموسم (الشتوي ) بغلاء التقاوي والمحاريث وتجهز الارض التي تحتاج الى فترة اطول في التحضير مما يهدد الدورة الزراعية ومضى على مستوى المراعي خرج كل اصحاب الابقار الى الخارج بسبب الدمار الذي طال الحظائر مما اجبر الكثير من أصحاب الماشية البحث عن مأوى اخر ،بجانب التوقعات بغلاء اسعار الاعلاف المزروعة والتي غمرتها الفيضانات .
كوارث بيئية محتملة
ونوه الاهالي لجملة من المحاذير الصحية المحتملة خاصة ان مناطق القرى بها كميات من الحظائر الحيوانية واراضي زراعية وهنالك مخلفات حظائر الحيوانات الكثيفة من ابقار واغنام تعج بها تلك القرى مما يشير الى انه وعقب رجوع الفيضان قد تتعرض المنطقة الى كارثة بيئية يتضرر منها المواطنين وطالب الاهالي الجهات ذات الاختصاص الانتباه والتحضير لما بعد الفيضان وموسم الخريف مشددين على ضرورة رش المنطقة بالمبيدات والادوية القاتلة للحشرات.
عبدالرحمن حنين
صحيفة الجريدة