السودان اليوم:
فى العام 1988 كنا طلاباً في جامعة الخرطوم وجاءت السيول والامطار وغرقت الخرطوم (العندي جمالك .. جنة رضوان) غرقت هذه (الجنة في شبر مية). كنا نسكن فى داخلية البركس الشهيرة التى حولها الاسلاميون إلى مشروع استثماري تحت مسمى ثورة التعليم العالي. المهم غرقت البركس عن بكرة أبيها وكنا نتنقل من داخلية إلى أخرى عبر المراكب أي أصبح البركس الذي يقع فى قلب الخرطوم أصبح المدينة العائمة. كان هذا في عهد الصادق وكان الاسلاميون في المعارضة وقالوا إن غرق الخرطوم كفيل بإسقاط حكومة الصادق المهدي. معذرة الصادق المهدي رئيس وزراء انتفاضة 85 كان مشغولاً جداً باسترداد ممتلكات ودور أل المهدي!؟. لم يسقط الاسلاميين حكومة المهدى ولكنهم بعد عدة أشهر أسقطوا السودان بإنقلابهم المشئوم يونيو 1989 أسقطوا السودان فى مستنقع آسن من السيول والامطار التي نشاهدها الآن. أي بعد اثنين وثلاثين عاما نحن لم نزل فى المربع الاول ” هذا ان لم نكن رجعنا الى ماوراء المربع الاول”. ربما بدأت افهم لماذا يحب الشعب السودانى ان يعيش هذه النستلوجيا ” الحنين الى الماضى” ويجتر الذكريات ويأتى بصور ” لجنة رضوان” وهى نظيفة وجميلة وانيقة. ولكن الشعب السودانى نسى ان النظافة والجمال والاناقة ليس من صنعه ولكن مايراه مكتوب عليه ” صنع فى انجلترا”. اخلص الى الاتى ان البنية التحتية التى نراها فى الصور القديمة هى من صنع ” الخواجة”. ماذا فعلنا بعد خروج المستعمر الاجابة فى غاية البساطة “دمرنا القديم ولم نصنع جديدا”. اعود الى بدأت به وهو ان البشير وصحبه جاءوا بعد سنة من من اخر سيول وامطار اجتاحت البلاد ” هذه المرة اسوأ لان هناك قرى ومدن بحالها اندثرت”. ورفعوا راية ” الانقاذ” وتشدق البشير بأنهم جاءوا من اجل انقاذ البلاد ” اكرر هذا التاريخ حتى يصمت من يدعون ان الحل فى البل”. وان ” البرهان” والشركات الامنية الضخمة التى يملكها الجيش فى يدها الحل” قبل عدة سنوات كتبت قصيدة تمنيت فيها ان يكون البشير اخر ” جياشى” يحكم السودان”.
بمجهود قليل كان من الممكن “انقاذ” ماحدث فى الايام الماضية. الغريبة انهم انشأوا وزارة لم يسبقهم بها احد من العالمين . وهى ” وزارة البنية التحتية”. من الاسم الكل يفترض ان اولى مهامها هو انشاء: بنية تحتية على حسب فهمى هو “حفر الارض وانشاء مجارى تذهب اليها الفائض من المياه”. هل هذا ما حدث فى الثلاثين عاما الماضية. الاجابة لا والدليل هو موت اكثر من 84 مواطن سودانى برئ. لا يهمنى البيوت التى تهدمت ولاتهمنى الممتلكات التى ضاعت تهمنى الارواح البشرية. التى هى ثروة السودان الحقيقية. وهى الدافع الذى قاد لثورة الشباب المنتصرة باذن المولى. البشير وصحبه مسئولين عن كل روح فقدت فى هذه الكارثة التى حدثت فى الايام القليلة الماضية. ولا زالت التداعيات تنقلها الصحافة المجتمعية كل يوم. ويجب ان يحاكم عليها وكل مسئول سرق اموال هذا الشعب وبنى بها عماراته وشيد بها قلاعه فى الوقت الذى كان من المفترض ان تذهب لبناء بنية تحتية تمنع ماحدث. اخلص الى ان حمدوك وحكومته الانتقالية مسئولة بصورةغير مباشرة عن ما حدث. وعليها ان تعمل من الان حتى لا نقول “حدث ما حدث” وبأتى مسئول اخر ويتبرأ من كل مسئولية ويدعى ان الحكومة فاشلة. الفاشل الحقيقى هو من جلس على كرسى السلطة ثلاثين عاما عجاف. ولم ينجح فى بناء مجارى تمنع جلوس المواطن المسكين فى شارع ” الظلط” حتى شارع الظلط تهدم وتلاشى. لا اريد ان ابكى على اللبن المسكوب اكثر . ذلك اللبن الذى وصفه على الحاج فى مؤتمر صحفى حينما سأله احد الصحفيين سؤال يتعلق بطريق الانقاذ الغربى وقال قولته المشهورة ” خلوها مستورة” . “طريق الانقاذ الغربى والطرق التى هدمتها السيول والامطار هى احدى انجازات وزارة البنية التحتية فى العهدالبائد” .
رسالتى اوجهها لحمدوك ولوزير البنية التحتية الجديد ” لا اريد ان اذكر ان ما يحدث فى الدول المتقدمة ان يستقيل المسئول فى الحال ويصدر بيان يعتذر فيه عن حدث”. وهو القيام بدراسة مستفيضة لمعرفة الاسباب التى ادت الى هذه الكارثة الانسانية بكل المقاييس. قد يقول البعض ان هذه حكومة انتقالية ولا تملك اصدار قرارات نهائية واقول هذا صحيح ولكن دراسة ما حدث ومعرفة الاسباب واصدار التوصيات لتجنب ما حدث فى المستقبل هو المطلوب. ومن اجل هذا قامت الثورة وهى ليست ثورة تصحيحية او انقلاب مضاد يقوم به العسكر ثم يسمونه ثورة. مثل ” ثورة مايو” انتهت الى “بمجاعة” . ثورة ” الانقاذ الوطنى” انتهت بفصل الجنوب ولا املك الا اردد ماشعر به سيدنا يعقوب ….” يا إسفى على يوسف “واضيف ” ابيضت عيناه من الحزن وهو كظيم” . الدمار الذى نراه الان هو فصل حزين من فصول ثورة الانقاذ وثلاثين عاما من الفساد والعناد وقتل العباد والاستبداد. بتوقيع اتفاقية السلام فى جوبا امس نتمنى ان نكون بدأنا تاريخا جديدا لبناء سودان جديد. بعد ثلاثين عاما سوف اكون تحت الثرى. ولكن لا اتمنى ان يرى ابنائى واحفادى ما رأيته فى الايام القليلة الماضية. سمعت اغنية ” عجبونى الليله جو …ترسو البحر خيرزان”. وشعرت ” بالفخار” باولاد توتى ولكنى فى نفس الوقت شعرت بالغثيان والانهيار ان التاريخ يعيد نفسه بصورة مأسوية جدا ونحن نردد ” عجبونى الليلة جو….ترسوا البحر خرسان” لا ادرى. على نفس المنوال دعونى اختم. مرة اضحك….مرة ابكى ….مرة تغلبنى القراية …لما اكتب لك وداعا….قلبى ينزف للنهاية.
The post بعد (50) عاماً من السيول والأمطار مازلنا نردد: ترسوا البحر خرسان.. بقلم صلاح ادريس appeared first on السودان اليوم.