لم يختلف حق التعبير السلمي في سودان ما بعد الثورة عن ما قبله كثيرا، حتى أضحى خروج المواطن في مواكب مطلبية سلمية دون أن تنتاشه علب البمبان الحارقة، ودون أن تصيبه سياط الكجر ومطارادتهم المذلة والمهينة مجرد حلم.
من حق المواطن أن يعبر عن رأيه في آداء الحكومة التي أتى بها حاملا كفنه في يده لأجل أن يعيش إخوته أعزة كرام في وطنهم.
نعم من الممكن ان تحدث تفلتات هنا وهناك، ولكن يبقى أسلوب وكيفية حسمها هو شعرة معاوية بينه وبين حمدوك.
وما حدث أمس الأول في موكب (جرد الحساب) من قبل لجان المقاومة أمام مجلس الوزراء، لن يمر مرورا عاديا ولن يكون سحابة صيف عابرة في سماء حكومة حمدوك بالتأكيد، نعم من المتوقع وجود مندسين أو متفلتين داخل هذه التجمعات، ووراد جدا ان تكون هناك محاولات لإحداث الفوضى من خلال هذه المواكب، ولكن الخطأ الإستراتيجي الذي وقع فيه رئيس الوزراء عبدالله حمدوك، التعامل مع موكب الثوار بهذه الفوقية غير المبررة وعدم خروجه لإستلام مذكرتهم المطلبية المشروعة.
الشباب الثائر لم يكن في حاجة لكل هذه المواكب المرهقة بدنيا وماديا، إذا شعر بأن ثورته تسير في الطريق الصحيح، وأن مبدأ الشفافية حاضر في كل ما يتعلق بمطالبه الحياتية ومعاشه، ولكنه يئس من كثرة الوعود التي لم تعد مجدية بعد إنقضاء عام كامل على توقيع الوثيقة الدستورية وإستلام عبدالله حمدوك مهامه كرئيس لحكومة الثورة.
لا يوجد تغيير ملموس على جميع المستويات، فلا تقدم ملحوظ في ملف السلام، ولا حل في الأفق يلوح بقرب إنتهاء المفاوضات التي ظلت متمترسة في مكانها ما بين مدَ وجزر. وإستمرار شلالات الدماء في مدن السودان المختلفة، وتغييب الجهاز الرقابي حتى الان ممثلا في المجلس التشريعي.
ولا واحد من شعارات الثورة التي خرج لأجلها الملايين تنزل على أرض الواقع بالصورة المطلوبة، فلا عدالة حقيقة لمسها المواطن تطمئنه على مستقبل البلاد في تحقيق العدالة الإجتماعية ولا العدالة الإنتقالية، فكل شئ منقوص حتى الآن.
تحقيق العدالة والقصاص لأرواح الشهداء منذ 1956 وحتى اليوم أصبح حلما بعيد المنال، رغم كافة الأخبار التي ملأت الصحف والقنوات بإلقاء القبض على مئات المطلوبين ممن تورطوا فيما وصلت إليه البلاد من تدهور وسوء حال. لأن الجزء الأكبر منهم تم تهريبه لخارج البلاد بعلم وتدبير السلطات الأمنية التي تشكل غطاءا وساترا قويا للقابعين داخل السجون.
لا أمل في عودة أموال نُهبت وتم تهريبها للخارج، وظلت وعود رئيس الوزراء في إستعادة هذه الأموال مثلها مثل وعوده بتشكيل لجان تحقيق في قضايا عديدة من بينها لجنة التحقيق الخاصة بمحاولة إغتياله والتي لم يعد يسمع عنها المواطن شيئا.
حمدوك لم يعد هو حمدوك الذي تغنى له شباب الثورة قبل عام، ولم تعد العلاقة بينه وبين مكونات الثورة هي ذات العلاقة التي جاءت به محمولا على الأعناق. لم يستثمر الحب الكبير الذي منحه له شعبه صكا على بياض، ولم يستفد من شعبيته الجارفة في إحداث تغيير كبير إنتظره الشارع السوداني سواء أكان على المستوى الإقتصادي او الإجتماعي.
وإصراره على تجاوز الجميع في كافة القضايا خاصة المتعلقة بمعاش المواطن، باعد الشقة بينه وبين الشارع كثيرا، وعليه أن ينزل بنفسه ويتابع ما يحدث في الأسواق العامة، ويشاهد فوضى الأسعار وتقاعس السلطات الأمنية عن آداء دورها المطلوب في الرقابة على الأسواق، وضبط الحركة فيه.
لا أعتقد أن المواطن سينتظر بعد الآن أي وعود، وسينتظر فقط التنفيذ، وحال لم يتم ذلك فالطوفان قادم لا محال، وسيجرف الجميع بلا إستثناء، لذا على السيد رئيس مجلس الوزراء أن يكون حكيما هذه المرة، ان كان يرغب في الاستمرار رئيسا للوزراء، ويطوي صفحته السابقة، ويبدأ في فتح صفحة جديدة بيضاء ناصعة، يدون عليها (مطلوبات الشارع) وتحديد سقف زمني لها، بخلاف ذلك فلا مجال لإستمراره.
صحيفة جريدة