انتهينا في الحلقة الثالثة الي أن الاستاذ ياسر عرمان .. الناطق الرسمي يومها باسم الحركة الشعبية لتحرير السودان .. قد ابلغنا أن الحركة لا تمانع في ابتعاث ممثلين لها الي الخرطوم .. للمشاركة في ورشة لدعم السلام .. شريطة أن تكون تحت رعاية جامعة الخرطوم وان تلتزم الحكومة بتقديم الضمانات المعلنة لسلامة مبعوثيها حتى يغادروا الخرطوم .. كان ذلك في مطلع نوفمبر من العام ٢٠٠٣ .. فكانت مرحلة البحث عن الضمانات .. وكنا في الواقع في حيرة من امرنا .. وفي ذات اجتماع ونحن نقلب في خياراتنا .. قال لي الدكتور بلال مدير مؤسسة فريدريش آيبرت و شريكنا في المشروع ضاحكا ..( شوف جماعتك على قول عرمان )..!
كان الأمر يزداد تعقيدا كلما مر الوقت .. وازدادت اتصالات عرمان المستفسرة .. خاصة وأن أحد ضباط جهاز الأمن ممن استمزجنا رأيه كان رده .. أن المسألة صعبة في ظل تعثر المفاوضات .. وزاد الأمر تعقيدا بقوله (و حتى اذا وافقت الدولة فستلزمكم بتحمل تبعات اي تطور يمكن أن يحدث نتيجة لهذه الزيارة ) ..!
وفجأة .. ينعى الناعي فقيد الصحافة السودانية .. الراحل الاستاذ الفاتح التجاني .. كان يجمعنا حي واحد عليه الرحمة .. فاتلقى اتصالا من الفريق عبد الرحيم محمد حسين .. وكان يشغل وقتها منصب وزير الداخلية .. و قد كانت واحدة من سمات عبد الرحيم ..انه لا يتقيد كثيرا بالبروتوكول والمراسم ..ويفضل العمل خارجها .. ولسنا في مقام تقييم اﻵن .. بل هي معلومات لاغراض التوثيق .. اذن كان اتصال الفريق عبد الرحيم لمعرفة موقع العزاء .. قلت له انه يجاورني.. جاءني رده .. ( خلاص انتظرنا جاهز بعد المغرب ) كان هذا يعني انه سيأتي رفقة الرئيس .. واعني الرئيس السابق عمر البشير .. فتذكرت على الفور حكاية الضمانات التى نبحث عنها وفق مطلب الحركة الشعبية ..!
و بالفعل رافقتهما حيث قدما واجب العزاء في فقيد الصحافة الراحل الفاتح التجاني .. وفي طريق العودة .. الذى لم يكن طويلا .. أذكر أننى قلت للرئيس السابق.. ( نحن عندنا فكرة مجنونة كدة إن شاالله تنفع معاكم ) وقبل أن اكمل عاجلنى مباشرة .. (ما حتنفع ) ..! ربما وعكس ما تتوقع .. وبمعرفتي اللصيقة بالرجل .. كان هذا يعني بالنسبة لي انه على استعداد ليسمع على الأقل .. فقدمت له شرحا لمشروعنا بإيجاز .. مع التركيز على موضوع الضمانات التي تطلبها الحركة الشعبية .. !
وبعيدا عن كل المتوقع من جانبي لحظتها .. دلف الرئيس السابق الى موضوع شعرت للوهلة الأولى أنه لا صلة له بما ابحث عنه إذ قال .. قبل عدة سنوات لاحظنا فى تقارير الاستخبارات أن المواقع المتقدمة للقوات المسلحة فى منطقة جبال النوبة ترفع بين الفينة والأخرى إفادات عن عناصر من المتمردين .. يعني منسوبي الجيش الشعبي بالطبع .. يطلبون الإذن بدخول الأسواق المحلية للحصول على بعض احتياجاتهم الشخصية .. وأردف بقوله .. حين تكررت هذه الظاهرة .. وجهنا بالسماح لتلك العناصر بدخول الأسواق وحتى المدن شريطة أن لا تتجاوز أي مجموعة شخصين أو ثلاثة اشخاص .. وأن يكونوا بغير أسلحة .. على أن يتوفر لهم الأمان الكامل .. ثم قال .. ( هذه المسألة ساعدت كثيرا فى الوصول الى توقيع إتفاقية جبال النوبة و صمودها حتى الآن .. ) .. كانت اتفاقية جبال النوبة قد وقعت فى يناير من العام 2001م إن لم تخن الذاكرة ..!
ثم فاجأنى الرئيس السابق بقوله .. ( مثل هذه الأشياء تساعد في بناء الثقة و سرعة تحقيق السلام ..) ثم اضاف ( نحن ما عندنا أي مانع نقدم ليهم أي ضمانات عايزنها ..) فسألته مباشرة .. طيب نبدأ من وين سعادتك ..؟ كان رده الذي بدا مازحا ولكني أخذته مأخذ الجد ..( لا إنتو ما تبدو حاجة لأنكم شيوعيين ناسنا ديل ما حيدوكم لكن الجامعة تخاطب جهات الاختصاص وحنوجه باللازم ..) وحيث أننى كنت معتادا على سماع مثل هذه التعليقات منه فقد اعتبرت أن الأمر قد حسم لصالحنا .. وبقي انتظار موافقة الجامعة ..!
كان ذلك فى اﻷسبوع الأول من نوفمبر 2003 .. ونحن الآن فى الأسبوع الثاني من يوليو 2020م .. وقد وئد حلم قرنق ..الذي اتضح أن مدير الجامعة آنذاك لم يسمع به أصلا .. أما ذلك الأكاديمى فقد صار ناشطا بارزا ومناضلا ثائرا.. له في كل منتدى وورشة ومائدة .. سهم ونصيب .. !
وحيث أننا فى مجال توثيق لوقائع لا سبيل معها للتكهنات واﻻستنتاجات .. فلست في موقع يسمح لي الزعم بأي صلة بين مبادرة طيبة برس تلك .. وما أعلنه الأستاذ ياسر عرمان نهاية الأسبوع الأخير من نوفمبر 2003 بأن وفدا من الحركة الشعبية سيزور الخرطوم لأول مرة .. ولكن ياسر يستطيع ..!
صحيفة السوداني