السودان اليوم:
(1 )
خرج المستعمر من افريقيا وتسلم ابناؤها شئون ودولهم لكن للأسف لازم تلك الدول التعثر لا بل وقعت (بردولب) فأصبحت دولة ما بعد الاستقلال مضربا للمثل في الفشل , فشل في التنمية اذ تراجع معدل النمو فيها بصورة أدخلتها في دائرة الفقر, فشل في السياسة اذ انتفت المشاركة وتحولت كل الحكومات الى حكومات أتوقراطية (أخنق فطس) , فشل اجتماعي اذ انفرط الأمن وسادت العنصرية والقبلية والحروبات الأهلية .حدث في كل الدول الافريقية ولكن بنسب متفاوتة أما لماذا حدث هذا الفشل ؟ هنا يذهب الناس مذاهب شتى فمنهم من أرجعه لعجز وأنانية النخبة التي تسلمت الحكم من المستعمر وانحيازاتها الضيقة . منهم من أرجعه لسياسات المستعمر نفسه اي انه ترك إرثا ثقيلا نتيجة لسياساته الموجهة نحو مصلحته ولم يراع فيها مستقبل هذه الدول. ومنهم من أرجعه لظروف الحرب الباردة وتنافس القطبين الدوليين امريكا والاتحاد السوفيتي على تلك الدول المغلوب
على أمرها ومنهم من أرجعه لتخلف جيني في العقلية الافريقية . المهم تعددت الآراء ولكن في النهاية الفشل واحد.
(2)
للخروج من دائرة الفشل تلك ذهب السياسيون والمفكرون مذاهب شتى فظهرت أفكار عدة ومتباينة وسياسات كثيرة ومتنوعة في كل الدول الافريقية تتراوح بين أقصى اليمين وأقصى اليسار فالخروج من دائرة الفشل الافريقية أصبح هما أرق كل القارة وكانت أكثر الحلول تطرفا ذلك الذي نادى بعودة الاستعمار الى افريقيا والغريب في الأمر ان هذا المقترح لم يقل به سياسيون سذج او أناس عاديون انما قال به مفكرون أفارقة عظام وبعد نقاش جريء ومستفيض وعلى رأس هؤلاء البروفسير الراحل علي المزروعي صاحب أضخم وأغزر وأعمق الكتابات في الثقافة والواقع الافريقي وكان هذا في مطلع الألفية الثالثة اي بعد نصف قرن تقريبا من خروج المستعمر . لم تكن الفكرة قائمة على إعادة افريقيا لحكم الاستعمار السابق (الخالق الناظر ) إنما وضعوا تصورا جديدا يقوم على تقسيم أفريقيا على خمس وحدات كبيرة وتلحق كل وحدة بإرادة خارجية وبنوا ذلك على ان الاستعمار نجح في حكم افريقيا لأن حكمه قام على وحدات كبيرة تكمل بعضها البعض وليس على دويلات متشرذمة كما حدث بعد خروجه ثم ثانيا وجود إرادة خارجية تتسامى على العرقيات المحلية هو الذي منع صراعها وتنازعها كما حدث بعد الاستقلال .
وفي تقديري ان تلك الفكرة (المجنونة) والتي كانت من خارج الصندوق لم تكن تهويما دون سند شعبي وقد كتبنا هنا في هذا الباب قبل مدة قصة عمنا حمد ود الشيخ ادريس وهو مزارع بمشروع الجزيرة ومن أهلنا بالتكينة وقد عاصر إقامة الانجليز للمشروع وأمد الله في ايامه الى أن توفي قبل عشر سنوات تقريبا عمنا حمد جاء لحواشته في سبعينات القرن الماضي فوجد فيها رهطا من الافندية في رفقة خواجات جاءوا لشراء القطن فأرادوا رؤيته وهو في مرحلة النمو فما ان رآهم حتى قفز من حماره وتوجه اليهم وهو يصيح هي حبابكم هي حبابكم جيتا جيتوا ان شاء خلاص جيتوا راجعين ؟ ها ناس نحن وراكم الهملة كتلتنا . عمنا حمد عاش فترة ما قبل المشروع وبالتالي شهد الطفرة التي أحدثها المشروع كما انه رأى الانضباط الإداري الانجليزي وقارنه بالسوداني
(3 )
شيوخ السودان الحاليين شهدوا العصر الاستعماري أما الكهول من أمثالنا فقد شهدوا آثار القدم الاستعمارية ولكننا في صبانا شهدنا سودانا كان يموج بالخواجات اذ كانت علاقة السودان التجارية والثقافية سالكة مع كل دول الغرب الاوروبي .
جاءت ثورة اكتوبر 1964 وطرحت أفكارا تحريرية معادية للغرب فطبقها نميري عمليا . فنميري اليساري الاشتراكي قطع العلاقات التجارية مع الغرب بالتأميم والمصادرة 1970 ثم نميري الإسلامي قطع العلاقات الثقافية مع الغرب بقوانين سبتمبر 1984 ثم جاءت الإنقاذ وكملت الناقصة في الحالتين وقالت إنها ستقوم بالبلاد (صداري) متجاهلة قوة الرافعة الدولية فكان ما كان . ثم جاءت ثورة ديسمبر الشعبية المجيدة في 2018 والتي أنجبت حكومة غربية التوجه وهي الحكومة الحالية ويحمد لغربنتها هذه انها (حتى الآن ) عصمت البلاد من دكتاتورية شرقية كانت ومازلت ترفرف فوق سماء البلاد , شبح الدكتاتورية جعلها تلجأ لامريكا لرفع عقوباتها عن السودان وإخراجه من قائمة الدول الداعمة للإرهاب ولكن امريكا مع ترحيبها بتوجه الحكومة الغربي تحصنت بسلبيتها وظلت تلوح بالجزرة مجرد تلويح مع غمزات بالعصا الا قل لي بربك كيف نفسر إجبار السودان بظروفه الحالية على دفع أموال لضحايا المدمرة كول والسفارتين ؟ قل بربك كيف نفسر حرمان السودان من مساعدات صندوق النقد الدولي من معونات مكافحة جائحة الكورونا التي نالتها كل الدول الفقيرة ؟
(4 )
والحال كذلك لجأت الحكومة وفي اطار توجهها الغربي نحو أم المؤسسات الدولية وهي الأمم المتحدة وبدفع ومساعدة اوروبية تمثلت في ترويكا المانية بريطانية فرنسية , فكان لها ما أرادت في القرار 2524 لعام 2020 الامر الذي أفضنا فيه في مقالنا السابق . أها اليوم العلينا دا السودان حكومة وشعبا ,مرحبين ورافضين, مستبشربين ومتشائمين , متحفزين ومتربصين , مطمئنين وخائفين, كلهم في انتظار البعثة الأممية التي سوف تحل في ارض السودان في يناير 2021 فالشغلانة تجاوزت الآن مرحلة النقاش لتصبح امرا واقعا ووصلت مرحلة اختيار رئيس للبعثة وهو جان بيلارد كريستوف او كريستوف رشيد بعد اسلامه للزواج من سودانية يعني الراجل نسيبنا وكدا وهذه الأيام تضج الاسافير السودانية بسيرته الذاتية بـ(الصاح والكضب) ولكن المؤكد من هذه السيرة ان الرجل على معرفة واسعة بأوضاع السودان وعلى علاقة قوية برئيس الوزراء حمدوك وهذان قد يكونان عونا في اداء مهمته او عليه فالأمر يتوقف على استخدام الرجل لمعرفته بالسودان فلا داعي للاستعجال والحكم المسبق . السودان من جانبه كون اللجنة الوطنية التي سوف تقوم بدور المنسق مع البعثة الدولية وأسند رئاستها للفريق اول إبراهيم جابر وهو من المكون العسكري لمجلس السيادة والظن الآن ان كلا الرجلين جان بيلارد وابراهيم جابر منهمكان في الاستعداد لمطلع 2021
(5)
إذن ياجماعة الخير نحن الآن كلنا في انتظار مسيو جان بيلارد الذي سوف يهل مع العام الجديد اللهم إلا اذا حدث ما يمنع ذلك كأن يقوم الدكتور ابراهيم البدوي بطمبجة الحكاية بسياساته القاطعها من رأسه (انقلاب عسكري تاني ما في ). هذا الانتظار لا يمعنا من محاولة استشراف عمل البعثة في السودان بل ينبغي ان نفعل ذلك حتى لا تكون كالتي هبطت علينا من السماء ونحن نجهل اي تصور عنها ولكن الأمر المؤكد ان الحكم لها او عليها لن يكون إلا بعد ان تبدأ عملها في السودان ويرى الناس نتائجه لا بل يحسون بها احساسا مباشرا . وفي تقديري ان الكتابة عن البعثة في هذه المرحلة يجب ان تكون بحذر وموضوعية وإبعاد المشاعر الشخصية وبالطبع الباب مفتوح أمام البعثة او للدقة أمام المرحلة القادمة لان البعثة لن تكون الفاعل الوحيد في السودان مفتوح على كل الاحتمالات وقبل الولوج في هذا لابد من ان نثبت بعض الحقائق وهي أولا ان هذه البعثة ستكون قد عادت بالسودان الى ما قبل مايو 1970 أي عادت به لسياسة التصالح مع الغرب وان شئت قل أنهت عزلة السودان الدولية على أساس ان الدولية ترجع للغرب فقط، ثانيا هذه البعثة وبالنصوص التي حددت مهامها لن تنتهك سيادة السودان وبالتالي لن تكون هي المسؤولة عن المرحلة القادمة فالسودان وحكامه وشعبه هم المسؤولون عن بلادهم، ثالثا هذه البعثة وجدت ترحيبا ووجدت رفضا مسبقا من السودانيين أي ليس هناك إجماع سوداني حولها، رابعا هناك قبول حكومي بالبعثة ولكن هذا القبول متفاوت وظهر هذا في بياني مجلس الوزراء ذي الترحيب غير المشروط وبيان مجلس الأمن والدفاع الوطني الذي رحب ترحيبا مشروطا . خامسا الأمم المتحدة هي أم المؤسسات الدولية وقامت على نوايا حسنة وقدمت خدمات جليلة لكثير من الشعوب والدول فليس من المصلحة شيطنتها او النظر إليها بعين الريبة ولكن في نفس الوقت لا يمكن إغفال ان الأمم المتحدة واقعة تحت سيطرة القوى العظمي وأنها في بعض الأحايين كانت وسيلة من وسائل قهر الشعوب وإخضاعها . سابعا موظفو الامم المتحدة أناس على تأهيل عال ويفترض فيهم الحياد والانضباط والإخلاص لأهداف الأمم المتحدة ومرجعيتهم هي ميثاق الأمم المتحدة والقوانين المنظمة لعملها
ولكن هذا لا يمنع ان يكون بينهم ذوو الأجندات الخاصة والتوجهات المؤدلجة لا بل ووجود منحرفين وسطهم فقضايا الفساد في الأمم المتحدة ما تديك الدرب فلا الأمم المتحدة ولا موظفوها شياطين انس ولا ملائكة ذوو أجنحة فهم بشر ينطبق عليهم ما ينطبق على بقية المؤسسات البشرية . على هذه الحقائق السبع وبالطبع القابلة للزيادة يمكننا وضع سيناريو لقراءة مستقبل اليونيتامس في السودان، فخليكم معنا إن شاء الله في المقال القادم.
The post اليونيتامس( 2 ) في انتظار جان (المسيو).. بقلم د. عبد اللطيف البوني appeared first on السودان اليوم.