غير مصنف --

تسليم كوشيب للجنائية..رسائل في اكثر من اتجاه

” تمَّ تحقيق إنجاز بارز في حالة دارفور بالسودان باستسلام علي كوشيب…إن نقل المشتبه فيه إلى المحكمة يبعث أيضا برسالة واضحة لا لبْس فيها مفادها أنه مهما طال الزمان وصعبت العقبات التي تعترض طريقنا، فإن مكتبي لن يتوقف حتى يتم تقديم الجناة المزعومين إلى العدالة”، هكذا علقت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية، فاتو بنسودا، حول تسليم علي كوشيب لنفسه في البعثة الاممية بإفريقيا الوسطى.

تذكرة وعبرة
واعتبرت بنسودا استسلام علي كوشيب ونقله إلى المحكمة، بعد ما يقرب من عقدين من جرائمه المزعومة، لهو تذكرة قوية ومحزنة لضحايا الجرائم البشعة المرتكبة في إقليم دارفور بالسودان، الذين انتظروا تحقيق العدالة طويلا.
ودعت بنسودا لتسليم عمر البشير وعبد الرحيم حسين وأحمد هارون الذين صدرت بحقهم اوامر توقيف، مشيرة الى أن السودان بموجب نظام روما الأساسي، أن يثبت لقضاة المحكمة أنه يجري تحقيقا صادقا مع المشتبه فيهم الباقين ويقاضيهم على السلوك الإجرامي المزعوم نفسه الوارد في أوامر قبضهم الصادرة عن المحكمة، مضيفة:” أرحب بالحوار مع حكومة السودان لاستكشاف جميع الخيارات المتاحة لتيسير الإجراءات القضائية الحقيقية بحق المشتبه فيهم على خلفية الحالة في دارفور الذين أصدرت المحكمة أوامر قبض بحقهم، إما في قاعة محكمة في السودان أو في المحكمة في لاهاي”.
ورحبت منظمة هيومن رايتس ووتش باستلام الجنائية الدولية لكوشيب، وقالت المديرة المشاركة لبرنامج العدالة الدولية بالمنظمة إليز كيبلر بعد 13 عامًا:”: ” اوامر المحكمة الجنائية الدولية لا تنتهي صلاحيتها مع الزمن، صحيح ان العدالة ليست دائما تتحقق على الفور، لكنها تعتمد على التعاون من الدول لفرضها”.

ترحيب وتعاون

في الاثناء اعلن مجلس الوزراء الانتقالي ترحيبه بتسليم علي كوشيب للمحكمة الجنائية الدولية، وقال وزير الثقافة والإعلام فيصل محمد صالح في بيان صحفي إن كوشيب هو متهم لدى السلطات السودانية بارتكاب عدد من الجرائم، مثلما هناك أمر قبض صادر ضده من المحكمة الجنائية الدولية.

واضاف أن الحكومة السودانية تعلن ترحيبها بهذه الخطوة، وتنتهز الفرصة لتأكيد موقفها المعلن سابقا باستعدادها لمناقشة أمر مثول بقية المتهمين المطلوبين من المحكمة الجنائية الدولية، وذلك كجزء من سعي السلطات السودانية لتحقيق العدالة لضحايا الحرب في دارفور كشرط لازم لتحقيق السلام.

ترحيب الحكومة السودانية بتسليم كوشيب يفتح الباب امام تعقيدات كبيرة امام الحكومة الانتقالية خاصة في ظل عدم وجود سياسة واضحة للتعامل مع ملف الجنائية في ظل تعارض واضح بين رؤيتي المكون المدني والعسكري، وهو ما يظهر من خلال البيان من أن هناك استعدادا للمناقشة حول الملف وليس التزاما.
مثول كوشيب امام الجنائية الدولية بات امرا واقعا، الا ان ثمة تعقيدات تكتنف موقف الحكومة الانتقالية تجاه التعامل مع ملف الجنائية خاصة والعدالة بشكل عام لاسيما مع حالة الشد والجذب بين موقف الحركات المسلحة التي تطالب بتسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية واتجاه العسكريين الرافض لتسليم البشير وبقية المطلوبين للتورط في عملية لا يمكن التنبؤ بنتائجها.
من المتوقع ان يدلي كوشيب في مقبل الايام بافاداته الاولوية وفي ظل الحديث عن تسليم وليس اعتقالا، فمن المتوقع ان يبدي كوشيب تعاونا غير محدود.
في حال تسليم البشير للجنائية الدولية فان ذلك يؤسس لسابقة تتعلق بتسليم اي شخص مطلوب مهما كان موقعه وهو امر يمثل تهديدا لبعض العسكريين ومن تورطوا في نزاع دارفور ووردت اسماؤهم ضمن تحقيقات الجنائية ولم توجه لهم اتهامات بعد.
سيناريوهات التعاون
تواجه الخرطوم ثلاثة مسارات للتعامل مع ملف الجنائية الدولية اولها يتعلق بتسليم المطلوبين، الا انه عليها حينها كحكومة انتقالية ان تدرس ملف القضية جيدا وتستعد للدفاع عن قياداتها سياسيا واعلاميا ودبلوماسيا ان استدعى الامر عبر مجلس الامن لاجهاض اي تحرك ضدها، وهو ما يجعل هذا السيناريو ينطوي على مخاطر عديدة.
السيناريو الثاني يتعلق بالمرواغة ومحاولة محاكمة البشير والآخرين في قضايا هامشية لا تتصل بالعدالة وإنصاف الضحايا في محاولة لكسب الوقت لعبور الفترة الانتقالية او وفاة البشير لعامل السن او المرض للخروج من حرج محاكمته او تسليمه، وهذا السيناريو سيجعل الخرطوم تعود مجددا لمربع المواجهة مع المجتمع الدولي والجنائية الدولية، ويضاف لذلك
السخط الشعبي من عدم تطبيق مبدأ الافلات من العقاب مما يسمح بعدم معاقبة كل من تورطوا في انتهاكات.
الخيار الثالث يرتبط بتشكيل محكمة جنائية خاصة (هجين) تعنى بجرائم الحرب
وتقوم بمحاكمة البشير وبقية المطلوبين في السودان، ويبدو خيارا مثاليا لعدة اعتبارات اجرائية وموضوعية، وقد اشارت له بنسودا في عدة مناسبات، وفي ظل ارادة سياسية لتحقيق العدالة وانصاف الضحايا تبدو مسألة المقدرة الفنية لتنفيذ الخيار خاضعة للتعاون مع المجتمع الدولي والمحكمة الجنائية الدولية.
تسليم ام اعتقال؟
في 31 مارس 2005، أحال مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الحالة في دارفور بالسودان منذ يوليو 2002 إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، بموجب القرار 1593 (2005). وبدأ الادعاء تحقيقاته في حالة دارفور في يونيو 2005. وفي 27 أبريل 2007، أصدر قضاة الدائرة التمهيدية الأولى بالمحكمة أمر قبض بحق المشتبه فيه، علي كوشيب.
وبحسب أول مذكرة اتهام من مدعي المحكمة الدولية، فهو يواجه اتهامات بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية في إقليم دارفور وتحديداً مناطق ولاية غرب دارفور، وذلك بالاشتراك مع قيادات محلية وأخرى مركزية.
وصدرت مذكرة الاتهام التي شملت أيضاً وزير الدولة للشؤون الإنسانية أحمد هارون في فبراير 2007، وعُززت لاحقاً بأمر توقيف من المحكمة في أبريل من ذات العام بعدما رفضت الخرطوم التعامل مع المحكمة ولم تعترف بها واتهمتها بأنها مسيسة.
ولم يظهر كوشيب في الإعلام بعد صدور الاتهام إلا نادراً، وظل يتجول تحت حراسة مشددة في غرب دارفور، وتعرض لمحاولة اغتيال في العام 2013 بمدينة نيالا، حين أُصيب بعد إطلاق الرصاص عليه من قبل شخص لم تُعرف دوافعه بسبب وفاته متأثراً بجروحه في الحادث، ولم تظهر نتائج التحقيق المتعلقة بالواقعة، فيما يرجح مراقبون أن يكون للحادث دوافع قبلية بعد أن تورط كوشيب في صراع قبلي حينها، وبعدها شدد كوشيب الحراسة على نفسه.
ومع سقوط نظام البشير في أبريل من العام الماضي، بات وضع المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية غامضاً، وأوقف 3 منهم في سجن كوبر بالخرطوم، وهم عمر البشير وأحمد هارون وعبد الرحيم محمد حسين، بينما ظل كوشيب حراً، غير أن اتفاقاً في جوبا بين الحكومة والحركات المسلحة في فبراير الماضي نص على ضرورة مثول المطلوبين للمحكمة الجنائية أمامها تحقيقاً للعدالة وعدم إفلات المتورطين في جرائم دارفور من العقاب، فكان الخيار الوحيد أمام كوشيب في مارس الماضي، هو الهروب إلى دولة أفريقيا الوسطى بعتاده العسكري حيث توقع المساندة من قبائل أخرى.
لكنه وجد نفسه وحيداً مطارداً، فقرر في حالة يأس تسليم نفسه للمحكمة الجنائية بمساعدة من بعثة الأمم المتحدة، ولا يُعرف على وجه التحديد ما يفكر فيه المتهم، وهل أراد أن يتحول لشاهد ملك يدلي بكل الحقائق من أجل التخفيف عليه في الحكم، أم أنه وصل إلى اليأس المطلق.
القانوني المعز حضرة يكشف عن صدور اوامر توقيف من النائب العام قبل عدة شهور أوامر ضد كوشيب وآخرين في عدد من القضايا التي وقعت احداثها في دارفور منذ عام ٢٠٠٣م في عدة مناطق مختلفة.
حضرة يضيف أن هذه الملفات مركونة ومحفوظة في الأدراج طيلة عهد وزراء العدل والنواب العامين السابقين ولم تحرك هذه الملفات إلا بعد تولي النائب العام مولانا تاج السر الحبر النيابة العامة، وعقد عدة اجتماعات مع المهتمين والحقوقيين من أبناء دارفور لتحريك هذه الملفات بعد سقوط نظام الانقاذ.
حضرة يواصل حديثه ويقول صدرت أوامر القبض من النائب العام واوكلت المهمة بسرية تامة لمجموعة منتقاة من القوات الامنية المشتركة وتمت متابعه كوشيب ورصده ومعه مجموعه مسلحة من فلول النظام السابق في منطقة بابنوسة كانوا يخططون لبعض الأعمال الارهابية لصالح فلول النظام السابق بعد أن أستلم اموالا طائلة الا انه بعدما أحس بالملاحقة الامنية قام بالهروب مع مجموعته المسلحة الي دولة افريقيا الوسطى تفاديا لتنفيذ أمر القبض الصادر ضده.
ويُرجح الصحافي المهتم بتغطية ملف دارفور، آدم مهدي، أن كوشيب يرغب بالتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية للحصول على مكاسب وربما تخفيف الأحكام عليه، بسبب كثرة الجرائم المتهم بها، مشيراً إلى أن الخطوة قد تعزز الاتهامات ضد المطلوبين الآخرين، أو قد تأتي بأسماء جديدة متورطة معه.
وقال مهدي إن تسليم كوشيب لنفسه قد يؤدي لتقليل أو تلاشي فرضية المواجهات التي قد تحدث في حال قيام الحكومة الانتقالية بتسليمه كرهاً للمحكمة الجنائية، وذلك في ظل الاصطفاف القبلي في إقليم دارفور، مبيناً أن الرجل اكتشف خطأ هروبه إلى أفريقيا الوسطى فقام بتسليم نفسه.
وتوقع مهدي أن تكون دفوعات كوشيب أمام المحكمة قائمة على أنه كان بلا رتبة عسكرية رسمية ولا منصب سياسي، وأنه ظل ينفذ أوامر القادة السياسيين والعسكريين.
على كل ان سلم كوشيب نفسه ام اعتقل فان الرسالة الاكثر وضوحا مفادها أن الافلات من العقاب لن يطول وان العدالة ستتحقق ولو بعد حين، فيما على الخرطوم اعداد استراتيجية متكاملة للتعامل مع المحكمة الجنائية الدولية في ظل خيار محاكم هجين كأقرب السيناريوهات.

تقرير: محمد عبدالعزيز

صحيفة السوداني

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى