بين نيروبي ودار السلام.. السودان وأمريكا يقتربان من تحطيم الصندوق الأسود
حين حدث تفجير سفارات الولايات المتحدة في كل من دار السلام (تانزانيا) ونيروبي (كينيا) في وقت واحد وذلك في 7 أغسطس 1998، وقتها لم يكن شباب ثورة ديسمبر المجيدة يدركون أنهم هم (أطفال) السودان الذين سوف ينتخبهم القدر ليكونوا هم (رجال) الثورة ووقودها الذي سوف يحرق نظام الجبهة الإسلامية التي أغرقت سمعة السودان في متون الإرهاب والأعمال الإجرامية عابرة الحدود.
وفي تسعينات القرن الماضي كان نظام الجبهة الإسلامية الذي يرأسه البشير موغلاً في الحلم بتأسيس الدولة الإسلامية الكبرى، ولذلك كان قيادات ما يعرف بـ”الجهاد” الإسلامي يجدون راحتهم في الإقامة في الخرطوم والتحرك منها صوب كل أهدافهم، أمثال أسامة بن لادن الرجل الأول في تنظيم القاعدة. وعندما توقفت شاحنات محملة بالمتفجرات أمام السفارات في نيروبي ودار السلام في أغسطس 1998، وأنفجروا في وقت واحد تقريبا وأسفروا عن مقتل 213 شخص في نيروبي بالإضافة إلى أحد عشر شخصا في دار السلام كانت غالبيتهم من الكينيين، لم يتردد الرئيس الأمريكي آنذاك الرئيس بيل كلينتون في رد فعل على التفجيرات بقصف عدة أهداف في السودان وأفغانستان؛ بصواريخ كروز في 20 أغسطس 1998، وقد دمرت هذه الصواريخ في السودان مصنع الشفاء للأدوية الذي كانت تصنع به 50 ٪ من الأدوية في السودان وأعلنت إدارة الرئيس كلينتون أنه توجد أدلة كافية لإثبات أن المصنع ينتج أسلحة كيميائية ولكن أثبت تحقيق بعد القصف ان هذه المعلومات كانت غير دقيقة.
واتهمت السلطات الأمريكية 22 شخصاً في مؤامرة تفجير السفارتين، يأتي على رأس قائمة المتهمين أسامة بن لادن والذي كان متواجداً في الخرطوم وقتها.
في القائمة السوداء
ظل السودان محاصراً بكل أنواع العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الإدارة الأمريكية على السودان، وكذلك تم تصنيف السودان من ضمن الدول الراعية للإرهاب، وكان ذلك بسبب التداخلات والعلاقات التي كان يقيمها نظام البشير مع بعض التنظيمات الإرهابية في العالم، فضلاً عن تورطه بحسب التحقيقات الأمريكية في أعمال إرهابية مقل المتفجرة كول، وتفجير السفارتين الأمريكتيين في نيروبي ودار السلام.
وبناء على ذلك أصدرت محكمة واشنطن قرارا بدفع حكومة السودان مليارات الدولارات كتعويض لأسر ضحايا تفجيرى السفارتين الامريكيتين في نيروبي ودار السلام عام 1998 اللذين أسفرا عن مقتل 224 شخصاً وجرح أكثر من ألف آخرين. وتقدمت أسر الضحايا بالمطالبات ضد حكومتى إيران والسودان لتسهيلهما الهجمات على السفارتين من خلال دعم تنظيم القاعدة ابتداء من عام 2001. وكشفت أدلة المحكمة عن تورط حكومتى إيران والسودان في المساعدة والتحريض على الهجمات. ويقول المدعون إن تنظيم القاعدة لم تكن لديها المهارات والشبكات اللازمة عندما خطط للعملية لذلك وجدت القاعدة المساعدة المطلوبة من إيران والسودان.
ومنذ يومين، أعادت المحكمة الأمريكية العليا، حكمها الغيابي ضد حكومة السودان بشأن تفجيرات سفارتي أمريكا في نيروبي ودار السلام، وطالبت بتعويضات قدرها 10.2 مليار دولار، والآن فرضت تعويضات بمبلغ 826 مليون دولار.
رد السودان
لا يخلو الشارع السوداني من حالة اندهاش كبيرة تجاه مطالبة أمريكا للحكومة الانتقالية بدفع التعويضات وعلى الرغم من إدراكها بأن السودان حالياً يعاني من عدة أزمات معقدة، وأنه بالفعل طوى صفحة النظام البائد وبات يستشرف عهد جديد يتطلب من الولايات المتحدة المساعدة لا تضييق الخناق، وفي غضون ذلك كانت وزارة العدل السودانية أصدرت بيانا، تقول فيه إن الحكومة السودانية تؤكد استمرار التفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية بشأن هذه القضية، و”العمل على تطبيع العلاقات معها بشكل كامل وتحرير الشعب السوداني من إحدى التركات الثقيلة للنظام المباد.
وقال بيان وزارة العدل أن المحكمة العليا عادت في حكمها فرض تعويضات عقابية بمبلغ 826 مليون دولار على حكومة السودان، لكنها في ذات الوقت امتنعت عن التقرير بشأن صحة فرض تعويضات عقابية بموجب القانون الولائي (وليس القانون الفيدرالي) على حكومة السودان، مع العلم أن معظم التعويضات العقابية التي كانت قد فرضت على السودان، والبالغة 3.5 مليار دولار من جملة التعويضات العقابية الكلية التي تبلغ 4.3 مليار، فُرضت بناءً على القانون الولائي، وليس القانون الفيدرالي، ولذلك فإن بقية التعويضات العقابية البالغة 3.5 مليار دولار لا تزال خاضعة للتقاضي أمام محكمة الاستئناف بين السودان والمدعين”.
وعبر البيان السوداني عن تعاطف الدولة “الثابت مع ضحايا العمليتين الإرهابيتين على سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودارالسلام، لكنها تؤكد – حسب البيان- مجدداً ألا علاقة لها بهما أو بأي أعمال إرهابية أخرى”.
حديث ” وول استريت جورنال”
اقتربت الإدارة الأميركية من التوصل إلى اتفاق مع السودان بشأن المزاعم المتعلقة بضلوعه في التفجيرات التي نفذها تنظيم القاعدة ضد سفارتي أميركا في كينيا وتنزانيا عام 1998، الأمر الذي يمهد الطريق لرفع اسم الخرطوم من قائمة الدول الأميركية الراعية للإرهاب. ونقل تقرير لصحيفة وول ستريت جورنال، عن مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية قوله، الثلاثاء الماضي، “بعد مفاوضات مكثفة، نعتقد أننا توصلنا إلى تفاهم مشترك مع السودان حول معالم اتفاق ثنائي مستقبلي” بشأن تلك التفجيرات.
وتأتي هذه التطورات غداة قرار المحكمة العليا الأميركية الذي قضى بأن يدفع السودان تعويضات عقابية لضحايا تلك الهجمات، التي أسفرت عن مقتل مئات الأشخاص، بينهم 12 أميركيا، وإصابة آلاف آخرين. وقالت الحكومة السودانية في بيان صادر عن وزارة العدل، الاثنين، إنها “تتطلع إلى تسوية قضايا التعويضات المالية مع الولايات المتحدة، رغم نفيها التام لأي علاقة لها بالهجومين أو أي هجمات إرهابية أخرى”.
ونقل موقع “الحرة” الاربعاء الماضي، تصريحا للقائمة بأعمال السفارة السودانية في واشنطن أميرة عقارب، قالت فيه إن “حكم المحكمة الأميركية يعتبر درجة من درجات التقاضي.. وليس حكما نهائيا..
وإعادته لمحكمة الاستئناف تعطي فرصة كبيرة للسودان في مباشرة التقاضي والدفع بشأن المبلغ المتبقي.. فالمحكمة حكمت فقط بخصوص مبلغ ٨٢٦ مليون دولار”.
والمساعي الجارية هي جزء من جهود الإدارة الأميركية لدعم الحكومة الانتقالية في السودان، بعدما أطاحت الثورة السودانية بالرئيس عمر البشير، الديكتاتور العسكري الذي استولى على السلطة تنفيذاً لمخطط الجبهة الإسلامية التي كان يرأسها دكتور حسن الترابي عام 1989.
وفي وقت سابق من هذا العام، قام السودان بتسوية المطالبات المتعلقة بالعملية الإرهابية التي نفذها أيضا تنظيم القاعدة عام 2000 في حاملة الطائرات الأميركية يو إس إس كول في ميناء عدن اليمني.
وقال مصدر بالكونغرس الأميركي إن ضحايا تفجيرات سفارتي أميركا في نيروبي ودار السلام، سوف يتلقون أكثر من 300 مليون دولار.
جهود وبشريات
وفي محاولة لشطب السودان من القائمة، تبذل الحكومة الحالية بقيادة عبد الله حمدوك جهودا حثيثة لإنجاز ذلك، من بينها التوصل مع واشنطن إلى اتفاق بشأن الهجوم الذي نفذه تنظيم القاعدة ضد المدمرة الأميركية “يو اس اس كول” في اليمن في عام 2000. من جانبه، أكد مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الأفريقية، تيبور ناجي، تحول العلاقات الأمريكية السودانية من العداء للشراكة بنسبة 180 درجة.
وقال ناجي في تغريدة على “تويتر” الأربعاء الماضي، إن الحكومة السودانية بقيادة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك، تعمل على حل مشكلات السودان وإجراء إصلاحات يمكنها صنع مستقبل أفضل للشباب. ويظل السودان يعلب جهوداً كبيرة ومقدرة من خلال حكومته الانتقالية لإحداث التقارب اللازم مع الولايات المتحدة الأمريكية والذي عبره يمكن تغيير مسار العلاقات بين البلدين إلى وجهة إيجابية يسمح معها تطبييع العلاقات، الأمر الذي يؤدي تلقائياً إلى رفع العقوبات الاقتصادية كلياً عن السودان، ورفع اسمه من القائمة الراعية للإرهاب، ويرى مراقبون بأن السودان بعد أن حقق تقدماً ملموساً في موضوع تعويضات ضحايا المدمرة كول، بإمكانه أيضاً أن يحرز تقدماً ملموساً فيما يتعلق بتعويضات ضحايا تفجيرات سفارتي نيروبي ودار السلام، وبهذا يصبح بإمكان السودان وأمريكان أن يقتربان أكثر وأكثر من تحطيم الصندوق الأسود للأعمال الإرهابية التي حوت أسم السودان سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
عبدالناصر الحاج
صحيفة الجريدة