الانتباهة اون لاين موقع اخباري شامل
*في العام 2016 وفي اليوم الرابع لعيد الفطر المبارك حزمت حقيبتي برفقة الزميل بصحيفة اليوم التالي الزين عثمان ويممنا عبر البصات إلي دارفور وصولا إلي مدينة نيالا في اليوم الثاني من رحلتنا، ورغم رهق السفر الذي هو قطعة من جحيم إلا أن أفئدتنا كانت معلقة بإحدي محليات جنوب دارفور التي شهدت حدثا استثنائيا وفريدا لم يسبق له مثيل في السودان الذي ظل يكتوي بنيران الإقتتال القبلي منذ ستينيات القرن الماضي.
*كان لزاما علينا أخذ قسط من الراحة بنيالا البحير حتي نتمكن من تجميع قوانا ولملمة شتات أفكارنا، في اليوم الثاني وعقب أداء صلاة الصبح تحركنا برفقة أستاذنا محمد المختار عبدالرحمن مراسل صحيفة الصيحة وعدد من النظاميين صوب وجهتنا التي نقصدها وكنا نتحرق شوقا للوصول إليها بل سبقنا شوقنا إليها قبل أعيننا.
*تركنا كأس الجميلة وراء ظهورنا وصوبنا نظرنا ناحية محلية شطايا التي قطعنا أكثر من ألف كيلو متر للوصول إليها انطلاقا من العاصمة الخرطوم، ورغم وعورة الطريق والمخاطر التي تحيط به وأبرزها المتفلتين، إلا أن البساط السندسي البديع من الخضرة الذي احتل الجبال والسهول والغابات وجريان المياه علي الأودية خفف علينا كثيرا وطرد من دواخلنا المخاوف والهواجس.
*بعد ساعة ونصف أطلت مدينة شطايا التي يحتضنها وادي كايا في منظر غاية في الروعة،وأينما أرسلنا بصرنا اتحفتنا الطبيعة بجمالها الاخاذ وسحرها البديع، وما زاد الآية رونقا هطول أمطار خفيفة جعلت من الجو شئا لايمكن وصفه.
*وهنا السؤال، لماذا حضرنا إلي شطايا، الإجابة تأت مباشرة علي لسان أهلها من الفور والعرب الذين كشفوا عن أنهم اختاروا بمحض إرادتهم توديع حقبة قاتمة ومظلمة من تاريخ المنطقة التي شهدت حربا ضروسا لأكثر من عشرة أعوام أبرزها مذبحة مسجد كلارنيك الذي استشهد داخله مايربو علي الألف من الأطفال والنساء والشيوخ الذين اتخذونه عاصما لهم من الرصاص الغادر لكن الشيطان اعمي بصيرة البعض ودفعهم لارتكاب جريمة اهتز لها الضمير العالمي وكانت سببا مباشرا لصدور مذكرة من الجنائية الدولية بحق الرئيس المخلوع.
*ورغم الدماء التي سالت والأنفس التي ازهقت والحياة التي دمرت وإجبار الفور علي مغادرة أرض أجدادهم فرارا من الموت، إلا أن أهل شطايا تساموا علي جراحاتهم ومارسوا فضيلة العفو عند المقدرة في أجمل تجليات الفعل الإنساني.
*أقاموا مؤتمر صلح غير مسبوق، كان يقف فيه أحد منسوبي قبيلة الفور ويشير بيده إلي أحد أفراد القبائل العربية ويقول له وسط الحضور الضخم:”يافلان انت قتلت امي واختي وولدي وانا شفتك، الكلام ده صاح ولا غلط؟”، فتأت الإجابة حزينة من الطرف الثاني ويقول وهو ينظر الي الأرض حزنا وربما ندما:”نعم قتلتهم”، ويواصل منسوب قبيلة الفور حديثه ويختم قائلا:”رغم انك قتلتهم لكن انا عفيتك لله والرسول”.
*وهكذا استمر المؤتمر منذ الصباح وحتي المساء وسط دموع الرجال وزغاريد النساء، وكان العنوان العريض أن اعترف العرب بما اقترفته أياديهم بدعم من حكومة الإنقاذ، بالمقابل فإن الفور مارسوا الحلم النبيل واختاروا بالعفو أن يكون أجرهم علي الله، وبقوة إرادة فريدة من الطرفين عادت شطايا إلي سابق عهدها ترفرف في سمائها رايات السلام وحمائم المحبة.
*وللأسف رغم هذا النموذج غير المسبوق الذي حدث فقط في رواندا وجنوب أفريقيا والمغرب إلا أن الذاكرة السودانية لم تختزنه ولم تحتف به، ماحدث في شطايا قبل سنوات وانتصار إرادة السلم والمحبة درس مجاني لكل المكونات السودانية المتنافرة والمتحاربة عنوانه البارز أن الإنسان وحينما ينصاع لمنطق العقل وصوت الحكمة يمكنه أن يتجاوز الصغائر ويسمو بروحه ويؤكد أنه إنسان وليس حيوانا.
*شكرا أهل شطايا وأنتم تضربون أروع الأمثال، وشكرا الوالي الأسبق لجنوب دارفور المهندس آدم الفكي الذي وقف وراء هذه المبادرة التاريخية، وليت الجميع يتخذون أهل شطايا نموذجا يحتذى به.
The post السودان: صديق رمضان يكتب: شطايا .. رواندا السودان appeared first on الانتباهة أون لاين.