قالت الدكتورة حنان بلخى المدير الإقليمي للشرق المتوسط :” تشرفت خلال هذا الأسبوع بزيارة السودان، ذلك البلد الذي يواجه حالة طوارئ قصوى، كأول بلد أزوره بصفتي مديرة إقليمية لشرق المتوسط، وذلك بعد خمسة أسابيع فقط من تسلُّمي مهام منصبي.
وأضافت فى بيان لها اليوم ، عدتُ منه وقد هالني ما رأيتُه بنفسي من تهالُكٍ في البنية التحتية للنظام الصحي، هو نتاجٌ لعقودٍ متتالية من التحديات السياسية والاجتماعية، وقرابة سنةٍ من حرب دامية. ويكفي أن أنقل لكم ما قالته لي سيدة سودانية: “لقد فَقَدنا في سنة الحرب هذه أشياء كثيرة، معنويًّا وماديًّا، لن نتمكن من إعادتها مرة أخرى، و عدت من السودان، وقد اطلعت على كَمّ التحديات الجسيمة التي تواجه أعمالنا الإنسانية هناك، والتي على رأسها إيصال المساعدات الطبية التي من شأنها رفع الضرر عن الأبرياء، وزيادة وصولهم للخدمات الصحية في جميع أنحاء البلاد، بحول الله.
واشارت بلخى لمن لا يعلم حجم المأساة، فإن السودان يعاني حاليًّا واحدة من أكبر أزمات النزوح في العالم، فقد أُجبرَ ما يقرب من 8.5 ملايين شخص على ترك منازلهم والفرار من جحيم الحرب الدائرة، بينهم ما يقرب من مليونَي شخص لجؤوا إلى البلدان المجاورة. خرج هؤلاء من ديارهم وقد أثقَلَهم المرض واليأس والضعْف، ومما يخفف من وطأة المعاناة أن معظم هؤلاء النازحين يعيشون مع مَن استضافوهم أفرادًا من المجتمع لا ينفصلون عنه، وهذا ليس بغريب على شعب السودان، الذي يشتهر بالكرم والتكافُل.
ولكن هذا الوضع الجديد قد أدى إلى زيادة الحاجة إلى جميع موارد الحياة من مياه وغذاء وخدمات الصرف الصحي، وكذلك خدمات الرعاية الصحية وغيرها. ومما زاد الأمر سوءًا تلك الهجمات المسلحة التي استهدفت مرافق الرعاية الصحية، فتوقفت أكثر من 25% من المستشفيات عن العمل، بل إن هنالك تقارير تفيد بأن بعض المقاتلين قد اتخذوا المخبر الوطني الرئيسي مقرًّا لهم.
ففي بورت سودان، على سبيل المثال، نجد أن المرافق الصحية تستقبل حاليًّا أضعاف ما كانت تستقبله قبل 12 شهرًا. ولذلك، فإن السعي إلى تعزيز قدرة ومرونة النظام الصحي في السودان يجب أن يشمل كذلك تعزيز قدرته على استيعاب تلك الأعداد المتدفقة من الولايات المجاورة، دون أن يؤثر ذلك سلبًا على المجتمعات المستضيفة.
وفي إطار زيارتي الميدانية لمستشفى في منطقة ريفية، التقيتُ عاملين صحيين، يتمتعون بهمَّة عالية، والتزامٍ مثالي بإنقاذ أرواح الناس، رغم ما يعانونه من ندرة الموارد. ومع ذلك، وجدت لديهم الحرص الشديد في ذلك المستشفى، وغيره من المستشفيات، على ضمان أن تكون الخدمات الصحية متاحة للجميع، وتحقيق الحد الأدنى -على أقل تقدير- من جودة الرعاية الصحية، الذي يضمن اتخاذ تدابير مناسبة للوقاية من العدوى ومكافحتها، لحماية المرضى والعاملين الصحيين أنفسهم من التعرض للخطر.
ولطالما كان السودان منبعًا لكوادر صحية خدمت النُّظم الصحية في كثير من دول المنطقة، وذلك بما لديهم من عاملين صحيين رفيعي المستوى، بل كان كثير ممن تلقيت العلم على أيديهم أثناء دراستي من السودان. ولكن الآن، وأكثر من أي وقت سبق، علينا أن نحمي هؤلاء العاملين الصحيين، وعلينا أن نعمل معًا لإكمال النقص في التخصصات الرئيسية هناك، ليتمتع شعب السودان بخدمات صحية متكاملة.
أما الأمن الغذائي، الذي تضرر كثيرًا جرَّاء الحرب وحالة الجفاف التي أصابت البلاد، فقد أدى إلى ضغط شديد على مراكز إسعاف حالات سوء التغذية. وفي أحد المراكز التي زرتُها في بورتسودان، المدعومة من طرف منظمة الصحة العالمية، والذي يحوي 16 سريرًا فقط، يجري علاج ثلاثة أو أربعة أطفال في سرير واحد .
ولهذا، كان للدعم الذي قدمته منظمة الصحة العالمية إلى 42 مركزًا من مراكز الإسعاف في شتى أنحاء السودان عظيم الأثر في عام 2023، فقد شُفي -بحَوْل الله- 90% من جميع الأطفال الذين استقبلتهم المراكز، علمًا بأن نسبة متوسط الشفاء هي 75%.
ولا ننسى أن السودان، قبل اشتعال فتيل الحرب قبل قرابة العام، كان يواجه ست فاشيات مَرَضية متزامنة، منها فاشية الكوليرا، التي انتشرت في 12 ولاية، حسب ما أعلنه السودان في أيلول/سبتمبر من العام الماضي.
ولكن، استطعنا بجهود متضافرة مع الوزارة، خلال الأشهر الماضية فقط، من خفض حالات الكوليرا والملاريا وحُمى الضنك، وليس حالات الكوليرا فقط. والآن، يعمل أكثر من 500 موظف، ممن دربتهم منظمة الصحة العالمية في شتى أنحاء البلاد، على الاكتشاف المبكر لهذه الأمراض وغيرها.
وفي بورتسودان أيضا، التي عانت من فاشية الكوليرا في نهاية عام 2023، زرتُ مركزًا لعلاج الكوليرا تدعمه منظمة الصحة العالمية، وسعدت أيما سعادة عندما رأيت المركز خاليًا من المرضى، وما فتئت أعداد الحالات التي يُبلغ عنها تواصل الانخفاض في جميع أنحاء المنطقة، وذلك بفضل الجهود الكثيفة التي تبذلها وزارة الصحة ومنظمة الصحة العالمية وشركاؤهم، ومن تلك الجهود حملة التطعيم المشتركة التي نجحت في الوصول إلى 4.5 ملايين شخص في جميع أنحاء البلد.
ورغم تلك الجهود، فإنَّ تصاعُد أعمال العنف منذ شهر أبريل الماضي يعوق كثيرًا محاولاتِ منظمة الصحة العالمية والشركاء في العمل الإنساني للوصول إلى الملايين في أنحاء السودان.
ونحن قَلِقون بشكل خاص إزاء الوضع في ولايات إقليم دارفور، إذ تعذر وصول المساعدات الإنسانية بشكل مباشر لعدة أشهر، ولا يصل إلى الناس في هذه المناطق سوى مساعدات محدودة، وتزامَنَ ذلك مع تعرُّض المرافق الصحية للنهب والإتلاف والتدمير. وفي غرب دارفور، توقف النظام الصحي المحلي عن العمل بشكل كبير جدًّا.
هذا الوضع يُعد اختبارًا حقيقيًّا لقدرات المجتمع الإنساني ككل، ولذا، نعمل جاهدين مع السلطات الصحية السودانية والشركاء لدراسة كل الخيارات المتاحة للوصول إلى جميع المحتاجين، خاصة أولئك الذين يعيشون في مناطق يستعصي، أو يصعب، الوصول إليها.
وفي أثناء زيارتي تلك، كنت في استقبال الطائرة الثانية التي وصلت إلى بورتسودان، والتي حملت إمدادات منظمة الصحة العالمية، وكلتا الطائرتين حملت ما يكفي من الأدوية والإمدادات لحوالي 750 ألف شخص في الأشهر الثلاثة المقبلة.
وللمنظمة حاليًّا مكاتب فرعية في ثماني ولايات في السودان. وقد أثبتنا أنه بإمكاننا تحقيق نتائج ملموسة في تحسين الصحة، عندما نجد حلولًا لعوائق الوصول إلى المحتاجين، وهذا ما نصبو إليه في جميع الولايات الثماني عشرة.
ولذلك حرصت، أثناء اجتماعاتي مع نائب رئيس الوزراء ووزير الصحة، على التأكيد على وصول المساعدات لكل المحتاجين في ربوع السودان، وتلقيت تجاوبًا فعالًا مفاده أن الوزارة والسلطات المعنية لن يدَّخروا جهدًا في توسيع نطاق الاستجابة الصحية للمنظمة والشركاء للوصول إلى جميع أرجاء السودان.
والتقيتُ أيضًا منسقةَ الشؤون الإنسانية في السودان، وأكدنا على أولوية التعاون المشترك لجميع الشركاء بصورة أكبر لمعالجة القضايا المتعلقة لا بالصحة فقط، بل بالشؤون الإنسانية عامةً، ومنها تحقيق الأمن الغذائي، والمياه النظيفة والصرف الصحي، وحماية الناس أيضًا، إذ ترتبط وتؤثر جميعها في تحسين مخرجات صحة الإنسان. وإضافة إلى كل ما سبق، فلن ننجح دون دعم مكثف من المجتمع الدولي لتوفير الموارد.
ولا أبالغ حينما أقول إننا لن نستطيع بلوغ هدفنا الجماعي المتمثل في تحقيق التغطية الصحية الشاملة، إذا ما تُرك أشخاص، كما في السودان،من خلف الرَّكْب، دون الحصول ولو على أقل مستوى من الخدمات الأساسية.
صحة الناس وعافيتهم تتعرضان لأشد الخطر أثناء الحروب، ولا يمكن معالجة الأزمة الصحية دون معالجة أسبابها، وليس لها حل إلا بالسلام، الذي سيكون، في نهاية المطاف، هو أمل السودان في مستقبل أفضل، وفي استعادة صحة سكانه وعافيتهم.