الراى السودانى
في تلك الليلة التي أسفر صباحها عن يوم 15 أبريل كان اللواء نادر المنصوري قائد الحرس الرئاسي يتجول بسيارة صغيرة في أزقة حي المطار، وقد رأى ما أثار مخاوفه، المواجهة حتمية كما تبدو، السماء صافية قليلاً والأجواء مشبعة بذرات الغبار الناعم، صوت شيخ الزين المُنعش للروح ينبعث شيئًا فشيئًا من أنحاء السيدة سنهوري، يعتقل المسامع في غمرات باكية، تلك هى العشر الأواخر، إذ يتحرى أهل الحاجة، وما أكثرهم، مطلع ليلة القدر، ويتحرى جُند الحراسة -هنا خلف الأسوار العالية- صباح الغدر، كانت سيارات اللاند كروزر بيك أب المُعزّزة بالراجمات ومضادات الطيران والدروع ترمي بِشرَرٍ، شيء ما يُحاك في الخفاء، ليؤذن برهن البلد، مرة واحدة وإلى الأبد، لأسرة تسعى نحو مُلكها العضود، كما أوحت لهم بذلك عرّافة في أنحاء الصحراء الكبرى، نحو ستمائة سيارة عسكرية تقريبًا وحفارات بوكلين تقبع على مقربة، سيتم استخدامها في الهجوم على القيادة وبيت الضيافة، على مضجع البرهان تحديداً.
“2”
المدافع مصوبة بزاوية محددة، نحو مقر القائد العام للجيش السوداني، وقد استقدم عبد الرحيم دقلو كتيبة كاملة إضافية لحراسة شقيقة ظاهرياً، تلك الكتيبة لديها مهمة أخرى سرية وخطيرة، وهى مهاجمة بيت الضيافة، وقتل أو أسر قائد الجيش وكبار الضباط.
كان عبد الرحيم موقناً تماماً بنجاح المهمة ويتباهى بقوته التي لا تُضاهى، في وقت أسر إلى صديقه المحامي طه إسحق بأن البرهان خلال ساعات سيكون مكلبشاً مذلولاً أمامهم، ولن يحول بينهم حائل، ولن تكن ثمّة أزمة دستورية، لأن شقيقه حميدتي سيملأ الموقع وزيادة، بصفته نائباً لرئيس مجلس السيادة، وسيكون طه على رأس الحكومة الجديدة، افترت أسنان إسحق ورفاقه عن ضحكات خبيثة.
“3”
العريف حسن يوسف الشهير ببوليس يتلقى مكالمة من أحد أقاربه، يطمئن عليه، كانت أقدامه تكرر في الحصى وهو يخيط المكان جية وذهابا، مرابطاً في خندق الواجب الوطني، سيتعين عليه أن يحمل وجبة السحور إلى رفاقه في الأبواب والمباني الصغيرة المُلحقة ببيت الضيافة، تلك الأبواب العنيدة التي صمدت طويلاً في وجه الانقلابات والهبات الشعبية، يتوضأ ويصلي صلاة القيام، كان بوليس قد تجاوز الثلاثون من العمر بأسابيع قليلة وبشاشة على الوجه لا تنطفئ، يحلم بوطن عزيز وعُشّة حريرية، لم يدرك أنها الليلة الأخيرة التي سيخلد فيه اسمه كأحد أبطال الحرس الرئاسي، الذين وقفوا في وجه الموت ببسالة نادرة، وقطعوا الطريق أمام أكبر مؤامرة لإختطاف البلاد ورهنها للشيطان.
“4”
عند السادسة من صباح السبت سمع العقيد أحمد النور الإمام قائد الحماية المرابطة داخل بيت الضيافة جلبة في البوابة الجنوبية، شعر بهدير محرك البوكلن الذي سيهد الجدران، لتتمكن سيارات الدعم من اجتياح أقدم الحصون الرئاسية، نحو مائتي سيارة مُجهزة بالكامل، بينها مُدرعة إماراتية طراز نمر عجبان، على متنها أحد القناصة الموكل إليهم التصويب على صدر قائد الجيش حال ظهوره أو سحبه بعيداً، كانت تلك هى مهمته الوحيدة التي دُّرب عليها جيداً، أي ذلك القناص، لكن جِداراً بشرياً من أجساد ضباط وجنود الحرس الرئاسي سيحجُب عنه الرؤية، وقد أدرك العقيد أحمد عظم المُهمة، مُهمة حماية القائد بكل رمزيته العسكرية والسياسية، والحفاظ على الجيش والوطن، فنادى مع أول خيوط الفجر ” يا فدائين.. هذه آخر تعليماتي: سدوا الثغرات.. أحموا الرئيس”، وتلك إشارة هجوم من المسافة صفر، استدعت على عُجالة نفخ البروجي مع أول صوت الرصاص المُنهمر. التقط البطل عثمان هارون الإشارة، ولاحت أمامه صورة الأمير الشَّهيد إبراهيم الخليل في معركة كرري، حين مضى يشق الصفوف من فوق جواده، شاهراً عبارته الخالدة “الخـيرة في ما اختار الله، نصرة ما في، إلا نِحنا قدَّنا بنسدُّو ..”، وثب عبد الحليم باسبار كالأسد، إلى جانبه بكري أبو لقيمة ومحمد جبارة وآخرين، تباشروا بعد أن حرّ الكلام، أخذوا التعليمات الأخيرة على محمل الجدية، لا تراجع لا استسلام، فتحولت أجسادهم خلال أقل من ساعتين إلى درقة تنفث الرصاص كمنفضة التبغ، وسيكون أيضًا لضارب الـ«أر بي جي» محمد عوض الشهير بالصيني دوراً بطولياً في حصد القوة المهاجمة، إذ انصب عليهم بوابل من النيران الكثيفة، فتساقطت أمامه كتائب الجنجويد، كسنابل القمح تحت المناجل الحادة، بضع فرسان تغلبوا على أكثر من ألفي جندي في كامل الجاهزية، يا للمفاجأة.
“5”
كانت خُطة عمليات الدعم السريع تقوم على الغلبة والهجوم المُباغت، موجة إثر موجة متصاعدة من النيران، وتغطية المكان بالقصف الكثيف في كل الاتجاهات، لتنهار دفاعات قائد الجيش أو تستسلم، في وقت تسللت قوة من الدعم السريع وعطلت المجنزرات الرابضة على مقربة، وهو جحيم لا يمكن صده أو الفرار من تحته، هجوم القوة الكاسحة في مواجهة هبة كاميكازية بلا عودة، وذلك حين خف الرائد محمد الحافظ أبو كلام نجل الجنرال السابق أبو كلام، ينافح عن قائده حتى أُصيب، لكنه لم يسقط، مدّ يده إلى رفيقه الأخر طه ومن ثم هارون، حاول سحبه بعيداً وهو يعانق الموت، أي هارون إبن الجيش البار، حين أدرك أنه اليوم الموعود أراد أن يخط بدمه الطاهر، ذكرى خالدة، على رصيف بيت الضيافة.
“6”
على امتداد تقاطع باحة شارع القصر مع الجمهورية كان الهواء أكثر خِفة، ضوء مصابيح التاتشرات الذاوي يلمع مع أول خيوط الفجر، وهى تتحفز للهجوم على القيادة من الناحية الغربية أيضًا، تم الاستيلاء على القصر الجمهوري والإذاعة والتلفزيون مع أول دوران عقارب ساعة الصفر، على وجه الدقة غدر أفراد المليشيا بأخوانهم في كل الحراسات تلك الليلة، إلا أن الهجوم على بيت الضيافة سوف يصطدم بقوة فولاذية من الحرس الرئاسي، التي كان سيفها أحمر الحد ثقيلا، وهى نفسها الكتيبة الصغيرة البطولية التي أجهضت أخطر مؤامرة على الجيش السوداني، وقام بقية أفراد قوة الحماية، وعددهم الكلي نحو 45 فارس، بقتل أكثر من 200 وأسر 75 من أفراد الدعم السريع وإفشال خطة قتل قائد القوات المسلحة أو أسره، لم ينجو من قوة الحماية تقريبًا سوى 10 أفراد، نجحوا بفدائية في سحب قائد الجيش بعيداً، وقد حدث ذلك بصورة خاطفة، مُذهلة، وهو المشهد الرهيب الذي لن ينساه البرهان أبداً، فكيف كانت أخر وصاياهم؟ ولماذا استقر الرأي بدفنهم داخل أسوار القيادة؟ وهل حمل البرهان بندقيته وقاتل إلى جانبهم، وكيف نجأ من الموت؟ كل هذا سنجيب عليه في الحلقة القادمة.
كتبه الصحفي عزمي عبد الرازق