القاهرة – داخل مقهى شعبي في حارات وسط القاهرة التي يغلب على وجوه روادها سمرة مألوفة، اجتمع طالب لجوء سوداني وآخر مستقر في مصر بعد سنوات من التنقل على ضفاف وادي النيل، وثالث يتحين فرصة عمل.
الثلاثة كانوا أشبه بمثال افتراضي لمئات من السودانيين ووافدي دول أفريقية مجاورة، جمعتهم نقطة تماس ميدان الأوبرا على مقربة من حي العتبة التاريخي المعروف بنشاطه التجاري الواسع، وشارع عبد الخالق ثروت الذي يخترق وسط القاهرة لينتهي منهكا بحركة سير دائمة الازدحام عند تلك النقطة المعروفة بـ “حارة الصوفي”.
قبل سنوات قليلة، كانت حارة الصوفي تعج بأحاديث الثورة السودانية التي أطاحت بنظام الرئيس عمر البشير، وبمثابة صالون سياسي يجمع توجهات فكرية مختلفة. غير أن أحوالها تبدلت بعد أن نال روادها من السودانيين ما نال رفاقهم المصريين من خوف وسكون وأحاديث هامسة حول أوضاع البلاد والسياسة والاقتصاد.
وخلافا لوسط القاهرة، تتمركز الجالية السودانية في مناطق عدة -حسب تقارير وأحاديث سودانيين- أشهرها كوبري القبة والعباسية (شرقي القاهرة) وأرض اللواء وفيصل و”بين السرايات” بمحافظة الجيزة (غرب القاهرة) إضافة إلى مناطق أخرى بمحافظات الإسكندرية والشرقية (شمال) وأسوان (أقصى الجنوب على الحدود مع السودان).
مضايقات ونفي
وفق أحاديث منفصلة أجرتها الجزيرة نت مع مواطنين سودانيين، اتفق أغلبهم على أنهم يقيمون في مصر كوطن ثان مرحب بهم من الجميع، وإن كان بعضهم -إضافة إلى ما رصدته تقارير حقوقية وناشطون عبر فيسبوك- تحدث عن مضايقات أمنية لأسباب ارتبطت بنشاط سياسي مزامن للحراك الثوري الراهن بالسودان، وأخرى بقضايا اللجوء والهجرة، بينما أبدى آخرون غضبهم من بعض التنمر.
يعزز ذلك تقرير منظمة “هيومن رايتس ووتش” الذي صدر الأسبوع الماضي وأشار إلى أن السلطات المصرية اعتقلت لاجئين وطالبي لجوء سودانيين، بعد حشدهم لمظاهرات بالقاهرة احتجاجا على أمور بينها غياب الحماية وتأخر إعادة التوطين فضلا عن المعاملة العنصرية من قبل مصريين.
كما تمت ملاحقتهم أيضًا لتنظيمهم مظاهرة أمام سفارة بلدهم تعبيرا عن تضامنهم مع الاحتجاجات في السودان ضد الدور السياسي للجيش هناك، وكان كل من اعتُقلوا مسجلين لدى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في مصر لاجئين أو طالبي لجوء، وأُطلق سراحهم لاحقًا بلا توجيه أي تهم، وفق رايتس ووتش.
وفي المقابل، نفى مصدر أمني مصري، الأربعاء الماضي، إساءة معاملة اللاجئين السودانيين، معتبرة ما أثير بهذا الشأن عاريا تماما من الصحة، وواصفة منظمة هيومن رايتس بأنها “موالية لجماعة الإخوان الإرهابية” وهو الوصف الذي تطلقه السلطة على الإخوان المسلمين.
وفي اليوم ذاته، التقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان. ووفقا لبيان الرئاسة المصرية، أكد الجانب المصري الترحيب الدائم بالجالية السودانية الشقيقة في بلدهم الثاني وشمولهم بكافة أوجه الرعاية، بينما أعرب الجانب السوداني بدوره عن التقدير للرعاية الكريمة التي تحظى بها الجالية السودانية .
وأمس السبت، أعلن قنصل عام جمهورية مصر بالسودان أحمد عدلي إمام أنّ الرئيس السيسي قد وجّه بإعفاء السودانيين في مصر من غرامات تجديد الإقامة، مع منحهم مهلة 6 أشهر لتوفيق أوضاعهم.
وقال إمام إن هذا التوجيه يأتي على خلفية استقبال الرئيس للبرهان الأربعاء الماضي، وانطلاقاً من العلاقات المتميزة التي تربط البلدين الشقيقين، وحرصا على تخفيف الأعباء عن كاهل المواطن السوداني في بلده الثاني، وإيمانًا بأن العلاقات بين الشعبين صمام أمان العلاقات الثنائية وقاطرة تقدمها.
أرقام متضاربة
لا يوجد إحصاء رسمي لعدد الجالية السودانية بمصر، غير أن الفريق البرهان أفاد، في مؤتمر صحفي بعد لقاء السيسي، بوجود 4 ملايين سوداني بينهم 4 آلاف يتلقون منحا دراسية وعشرات الآلاف يتلقون العلاج سنويا.
وعادة ما تؤكد القاهرة على المعاملة الطيبة للاجئين ودون تمييز، وفي أكثر من مناسبة يتحدث السيسي أن بلاده تستضيف 5 ملايين لاجئ من مختلف الدول العربية والأفريقية المجاورة، لا يقيمون في مراكز أو معسكرات إيواء، على حد قوله.
بينما رصدت آخر إحصائية لمفوضية اللاجئين الصادرة في يناير/كانون الثاني 2022، استضافة مصر أكثر من 270 ألف شخص من طالبي اللجوء المسجلين واللاجئين من 65 دولة مختلفة، غالبيتهم من سوريا تليها السودان وجنوب السودان وإريتريا وإثيوبيا واليمن والصومال.
وتشير المفوضية الأممية -التي تسجل وتوثق حالات طالبي اللجوء واللاجئين نيابة عن الحكومة المصرية- إلى أن بمصر قرابة 52 ألف لاجئ وطالب لجوء سوداني مسجل.
في حارة الصوفي
في قلب حارة الصوفي وسط القاهرة، يقف العشريني محمد الصافي، يبيع إكسسوارات سودانية الصنع خلف صندوق زجاجي صغير ومن حوله تجمع بشري كبير من السودانيين والأفارقة.
في حديثه للجزيرة نت، يقول الصافي -الذي أتم عامه الأول بالقاهرة قادما من مدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور التي تشهد نزاعات قبلية منذ سنوات بعيدة- إنه أتى إلى القاهرة من أجل الإقامة أولا ثم البحث عن فرصة للسفر واللجوء إلى الخارج لاحقا.
لكنّ حركة التجارة والبيع بمصر، المتميزة عن بلاده، دفعت الشاب السوداني إلى التفكير في الاستقرار قائلا “لم يعد لدي رغبة في اللجوء إلى الخارج على غرار غالبية السودانيين بمصر الذين يقدمون طلبات لجوء ثم الارتحال إلى أوروبا”.
إضافة إلى ذلك، يرى الصافي أن جنسيته السودانية تعني له الكثير ولا يريد التفريط فيها، وهمهمَ بحديث هامس حول مضايقات يعانيها رفاقه السودانيون وتنمر من بعض المصريين.
وفي تلك اللحظة، تدخل مسن مصري يقف خلف الشاب السوداني كان يسترق السمع لحديثه، قائلا بابتسامة ترتسم على شفاهه “يا بني: نحن نضحك ونسخر من أنفسنا، وعندما نقابل طفلا مصريا أسمر البشرة نقول عليه بكار (شخصية كرتونية تشبه أهل النوبة جنوبا) من باب الفكاهة لا السخرية”.
وعلى الجانب الآخر من الحارة الشعبية، على مقهى يعرف بمقهى السودانيين، يجلس شاب من الخرطوم بجوار شقيق له سبق أن قدمّ طلبا للجوء، اقتربنا منه بعد أن طلب مشروبا غازيا من امرأة تدير المكان الذي يعمل به سودانيان ومصري، وتبدو من لهجتها هي الأخرى أنها سودانية الجنسية.
الشاب يدعى محمد ويعمل نجارا في بلاده، وحين أتى إلى القاهرة تعلم فن الأرابيسك (فن إسلامي يدخل في صناعة الأثاث) لكنه ينتظر نهاية شهر رمضان المبارك للعودة إلى بلاده من جديد في رحلة تستغرق بالحافلة يوما ونصف اليوم، مشيرا في حديثه للجزيرة نت إلى مخاوف يخشاها من إعادة إغلاق طريق “شريان الشمال” الذي يربط بين مصر والسودان.
ومؤخرا أدى إغلاق متظاهرين “شريان الشمال” إلى شلل شبه تام في حركة التجارة بين البلدين، جراء توقف وتكدس مئات الشاحنات القادمة من مصر والمتجهة إليها.
ولا يعاني الشاب السوداني من تنمر أو مضايقات أمنية، قائلا إن كل ما يرجوه في مصر هو توفير حوافز وحقوق وتأمين العاملين السودانيين، موضحا أن من بين الوافدين من يعمل في جهة ما مدة تزيد على 6 أشهر لكنه لا يحصل في النهاية على زيادة أو تأمين عمل.
لم تكتف حارة الصوفي بجمع السودانيين فحسب، إذ إن 3 طلاب يدرسون بجامعة القاهرة وافدين من جنوب السودان وجيبوتي والصومال، جمعهم مقهى السودانيين، وأشاروا إلى أن تكاليف الدراسة العالية بمصر دفعتهم للعمل لدى تجار الأقمشة والمنقولات، بعد ارتفاع الأسعار وإيجارات السكن، الفترة الأخيرة، ومن قبلها تداعيات فيروس كورونا، وما تعانيه مصر من بطالة وأزمة اقتصادية.
تحدث العديد من الوافدين السودانيين بانسيابية كانسيابية سوق العتبة في رواج تجارته، لكن آخرين يقيمون في أطراف أخرى من القاهرة من طالبي اللجوء كانت لديهم عشرات القصص تختبئ بين الصدور، فكان الصمت والاعتراض على الحديث ولو هاتفيا السمة الغالبة عليهم، لأسباب كان أبرزها خشية رصد أمني.
الحريات الأربع والعبور الآمن
رغم دفء العلاقات الشعبية بين أبناء البلدين، لا يزال السودانيون يعانون من عدم تفعيل القاهرة اتفاقية “الحريات الأربع” الموقعة عام 2004، والتي تعطي مواطني البلدين حريات التنقل المتبادل بدون تأشيرة، والعمل والإقامة بدون قيود، وكذلك تملك الأراضي والعقارات.
وفي أكثر من مرة طلبت مصر إدخال تعديلات على بنود الاتفاقية، يضع بعضها قيودا على دخول السودانيين إلى البلاد، بالتوازي مع اتهامات سودانية للقاهرة بعدم تفعيلها.
وعلى جانب آخر، لم تعد مصر بوابة عبور آمن للجوء إلى أوروبا إثر ضوابط وسيطرة أمنية صارمة على سواحل البلاد الشمالية بعد منع قوارب الهجرة إلى أوروبا، والشمالية الشرقية نظرا لنقاط التفتيش المترامية على امتداد شبه جزيرة سيناء حتى الحدود مع إسرائيل، وكذلك الغربية بعد تشديدات عسكرية مدفوعة بعدم استقرار في ليبيا.