الراى السودانى
أهلاً ومهلاً أيها الموت (27):
مات الإنسان، الصحفي، المهندس، المترجم، الناشر، الطيب الطيب.
** كان يعلق على سلسلة مقالاتي التي تحمل نفس هذا العنوان، ويمازحني إن كنت أخشى الموت، أجبته بأنني أضفت أهلاً لتسبق مهلاً كما كان عنوانه، و أسريت له بأنني أعددت معظم المادة الخاصة برحيلي تحت عنوان (الحلقة الأخيرة) وحفظتها مع وصيتي، فقد كان يتمثل الموت دائماً و يتوقع نفسه شهيداً، رحم الله الأستاذ المهندس الطيب مصطفى عبد الرحمن.
** لم أكن أعرفه قبل الإنقاذ فقد كان من بواكير المغتربين في الإمارات حيث عمل في الاتصالات ومترجماً ومحرراً بمجلة قلف تايمز، وكنت من بواكيرهم في السعودية.
**رأيته لأول مرة في مكتبه بوكالة السودان للأنباء سونا وكان مديراً لها بعد عودته مبعداً من الإمارات، وكان اللقاء بعد رسالة حادة منه لكل مديري مكاتب أجهزة الإعلام الخارجية لسداد ما عليهم من ديون للوكالة والعمل من خلالها.
** بنفس حدة دعوته واجهناه بأن من حقه تحصيل الديون، و لكن ليس من حقه وحق الوكالة، أن نعمل من خلالها، فلنا مكاتبنا المجهزة، وسنرفع الأمر لمكاتبنا الرئيسية في لندن وغيرها.
** أبلغته في اليوم التالي هاتفياً أن رئاسة تحرير صحيفة الشرق الأوسط في لندن، وإدارتها في جدة أبلغتني بإيقاف العمل إن كان عبر الوكالة الحكومية، فهدأت حدته وأظهر كما قال إعجابه بمن يقف ويدافع عن رأيه، فأصبحنا أصدقاء بعدها صداقة أفادتنا فيما بعد حين عملنا سوياً في التلفزيون وصحف الانتباهة والصيحة والموسم.
** كنت بعد عودتي من الاغتراب مطلع التسعينات، قد تم تعييني عضواً بمجلس إدارة التلفزيون بحكم عملي السابق في هذا الجهاز في الستينات قبل اغترابي، وقبل أن يأتي صديقي المهندس الطيب مصطفى للتلفزيون وعملت مع عدد من المديرين في النصف الأول من التسعينات منهم الأساتذة حمدي بدر الدين، محمود جمال، وجمال الدين عثمان.. وكنت أقدم برنامج ثلاثة في واحد، ورئيساً للجنة الاستشارية للبرامج الرياضية، ولم أكن ممن أتى بهم للحوش المهندس الطيب مصطفى كما روج البعض.
** كنت الأكثر سعادة بتعيينه مديراً للتلفزيون أظن في ١٩٩٤م، لمعرفتي به ولما سمعته من الزملاء في سونا حول جديته وتطويره العمل والاهتمام الكبير بالعاملين، وهذا ما بدا به عهده الزاهر في التلفزيون.
** عقب أحد اجتماعاته بمجلس الإدارة أبدى ملاحظات قوية عن الرياضة، وطلبني في اجتماع بمكتبه في اليوم التالي، ووجدته يقرأ من وريقة أمامه عن رياضة التلفزيون، وما يجب أن تكون عليه، وعرض علي العمل رسمياً في التلفزيون، واعتذرت بشدة، لأنني وقتها كنت مراسلاً لإذاعة BBC في السودان والقرن الإفريقي، ومديراً لمكتب صحيفة الحياة اللندنية بالخرطوم، وكنت أصدر صحيفتي الجريدة الرياضية، وطبعاً معي مجموعة طيبة من الزملاء، أظهر اقتناعاً ولكنه أخرج عقداً كان جاهزاً في معظمه بتعييني مستشاراً غير متفرغ للرياضة، ووقعت على العقد الذي كان شاهداً عليه الأستاذ حسن فضل المولى والدكتور عبد السلام محمد خير.
** وفيما بعد تحول المستشار غير المتفرغ إلى مؤسس لأول إدارة رياضية بالتلفزيون عام ١٩٩٦م بعد أن كانت قطاعاً أو قسماً يتبع للثقافة أو الأخبار، وأبلغني الشاهدان حسن وعبد السلام بأنه أسر لهما بأنه يعرف الناس جيداً، بل كتب فيما بعد بأن تختار ذا الهمة حتى لو لم يكن كامل التفرغ، و كتب مرة الدكتور عبد السلام مقالاً بهذا المعنى.
**الذين يكتبون هذه الأيام عن النقلة الهندسية والفضائية والبرامجية للطيب مصطفى لم يكتبوا عن النقلة الرياضية الأكبر في عهده و تحول البرنامج الوحيد عالم الرياضة إلى تسعة برامج في الأسبوع، ونقل أبرز الأحداث الرياضية في العالم والتخطيط لقناة رياضية متخصصة.
**خطط المهندس الطيب مصطفى لأول قناة رياضية في السودان، وقنوات أخرى ولكنها تأخرت وتقدمت عليها قنوات خطط لها، قناة الخرطوم الدولية وقناة النيل الأزرق والقناة الثانية، ولكنها، أي الرياضية، انطلقت فيما بعد أرضية عام ٢٠٠٦م ثم فضائية باسم النيلين عام ٢٠١٢م قبل أن يبتلعها فساد وشراكات ما بعد عصر الطيب مصطفى.
** قبل أسابيع اضطر للدفاع عن تهمة بأنه مكن الإسلاميين المنظمين في إدارات التلفزيون على حساب غيرهم، ونفى ذلك بحدة بل ضرب بعض الأمثلة بأنه استغنى عن أحد الإسلاميين المعروفين في الإدارة الهندسية واختار مكانه أحد ألد المجاهرين بالعداء للإنقاذ، المهندس حسن أحمد عبد الرحمن يرحمه الله فقد كان صاحب بصمات في التلفزيون وتلفزيونات الولايات، وذكر عدداً من غير الإسلاميين في الإدارات في عهده منهم السادة عمر الجزلي، محمد أبشر، قدورة، ياسين خليل، أحمد مختار، أنس العاقب، بدر الدين حسني، هاشم علي مالك وشخصي الضعيف.
** وصفته بالإنسان، الصحفي، المترجم، المهندس، الناشر و الأب، ولدي ما يؤكد كل هذا فهو إنسان لم يظلم عنده أحد من العاملين، وهو المتمكن من اللغتين بصورة كبيرة وهو مهندس الاتصالات خريج الكلية السلكية واللاسلكية في السبعينات وبعد أن تخرج فيها أو أثناء الدراسة درس وتخرج في كلية الآداب بجامعة الخرطوم.
** لا يمكن أن ننكر أن ما حققه من نجاحات في التلفزيون و الاتصالات، كان بدعم من الإنقاذ وقائدها ابن أخته الرئيس السابق، الذي منحه نجمة الإنجاز الذهبية مرتين الأولى في افتتاح المحطة الفضائية أمدرمان وخروج التلفزيون للعالم، والثانية في تشييد برج الاتصالات، التي تولى ملفها بعد مغادرة التلفزيون وزير دولة بوزارة الإعلام والاتصالات.
** ابن أخته الذي منحه نجمتي الإنقاذ لم يصبر على صراحته وجهره برأيه في عدة موضوعات، منها رفضه فصل العاملين بالتلفزيون، ثم الخلاف السياسي حول اتفاقيتي ميشاكوس ونيفاشا، وظهر العداء بينهما بعد هجومه على المؤتمر الوطني ورفضه تعديل الدستور لولاية جديدة للرئيس وأسس منبر السلام العادل، والموقف القوي لصحيفة الانتباهة التي تكاثرت عليها الإيقافات والمصادرة والديون حتى اضطر لبيعها ثم تكرر الأمر مع صحيفة الصيحة مصادرات وديون حتى باعها، واستمر الخلاف رغم جهود الأسرة ولكن كما سمعت منهم بأن (الاتنين راسم قوي).
** كتبت عن القليل وأترك الكثير لمن رافقوه في موقفه السياسي والفكري، وكان يقول لأصدقائي في قيادة حزب منبر السلام العادل الأخوة الفريق عبد الرحمن فرح والدكتور عبد الوهاب عثمان أنه فشل في ضمي للحزب، لأنني مع وحدة البلد وليس انفصال الجنوب، وليس في هذا تقليل لمؤيدي الانفصال فهم كثر منهم النسبة التي تجاوزت التسعين بالمائة من إخوتنا الجنوبيين الموجودين معنا في الشمال، إضافة للضغوط الدولية الداعمة للانفصال.
** كان الرجل صديقاً وكنت معجباً بقوة إصراره على رأيه كما كان سريع التراجع عما يراه خطأ، وقد كتب عن بعض هذه المواقف آخرون، ولكن إعجابي به بشأن حقوق وتميز العاملين معه، والإخوة والأخوات في حوش التلفزيون كتبوا الكثير خاصة تأسيسه بما يسمونه البديل النقدي والسقف المالي، وفرص التدريب الداخلي والخارجي وكان لإخوتي في دار الرياضة نصيب كبير وصل إلى درجة ابتعاث كل الإدارة لشهر كامل إلى مصر على دفعتين.
**علمت بمرضه الأخير وحاولت الاتصال ولكن هاتفه ظل مغلقاً وحين كان متوفراً رد على بصوت متعب وطلب مني الدعاء له في المسجد النبوي الشريف، وفعلت وواصلت وشاركني آخرون.
** اهتم بالعلاقات الخارجية رغم أنها لم تكن طيبة في عهد الإنقاذ ومع هذا فقد فاز هو نفسه برئاسة لجنة التلفزيون باتحاد الإذاعات العربية لعدة دورات، وفاز معظم مرشحي التلفزيون، منهم الأستاذ محمد هاشم إبراهيم في اللجنة المالية، وإبراهيم الصديق في لجنة البرامج، والمهندس كمال نور الدائم في اللجنة الهندسة وشخصي الضعيف في رئاسة لجنة الرياضة لعدة دورات، وفوز برامج التلفزيون في معظم المهرجانات.
** كتبت عن المهندس الطيب مصطفى كصديق متعامل معه لأكثر من ثلاثة وعشرين عاماً، وتعلمت منه الكثير، مما اتفق معه فيه، و هنالك القليل مما اختلفنا فيه ولكن في حدود الاحترام الكامل، وحينما أعددت كتابي (نصف قرن بين القلم والمايكرفون) طلبت منه المساهمة مع السيدين المرحوم صادق عبد الله عبد الماجد والبروفيسور علي شمو، وكتب ثلاثتهم مقالات رائعة زينت صفحات الكتاب كما كتبت عن ثلاثتهم ضمن ست شخصيات سودانية وسعودية كان لها دور في مسيرتي الإعلامية.
** اسأل الله الرحمة لشيخ الطيب مصطفى والجنة التي عمل لها ولاقى في سبيل ذلك الكثير الذي وصل لدرجة الشماتة في موته والعياذ بالله.