ان كنت تقود سيارة فلربما لاحظت للفرق في سلوك الناس في الشوارع وعدم التزامهم بالقوانين، والنزعة للعنف في القيادة وحتى حسم المشاكل بين السائقين لفظيا كان أم مادياً.
في صباح اليوم ونحن متوقفون في إحدى الإشارات الضوئية وسط الخرطوم، احتدم نقاش بين كمساري وجماعة من الركاب، وجميعهم لا يتجاوزون الخامسة والعشرون فيما أظن، بينما أخرج الكمساري عصاته، استل اثنان من المراهقين أسلحتهم البيضاء وسط هرج الناس!! لا أدري ما الذي حدث فلم أتوقف لمتابعة المشهد.
بالنسبة لي لم يكن المنظر غريباً لشخص مثلي يعمل في مؤسسة خدمية أصبحنا نواجه يومياً مشاهد مثل هذه وان كانت تتباين خطورتها لكنها يومية، كانت المواقف مثل هذه سابقاً من النوادر التي يحكى بها، أما الآن فقد أصبحت هذه الأحداث جزءا من يومياتنا، والجديد أيضاً اعتذار القوات الأمنية بعجزها عن حماية الناس من بعضهم وهي وظيفة الدولة بالأساس.
هناك غياب واضح لمؤسسات الدولة، وحالة سيولة أمنية لا تخطئها عين، هذه السيولة لا تخص جانب مؤسسات العنف المشروع وحدها، ولكن حتى المؤسسات المدنية تكاد لا تلحظ لها وجودا أبداً، وحالة السيولة التي تعانيها من غياب للرقابة وللمساءلة حتى بين منسوبيها وصل حدا يشتكي منه الناس، وهذا يجعلنا نتفق تماماً مع حديث الفريق أول محمد حمدان دقلو حول غياب المساءلة بمؤسسات الدولة قبل أيام، وللمفارقة يقود ذات الفريق أول قوات الدعم السريع عسكرية تقوم بغير واجباتها بمهام لا تبدأ بمشاريع الإقراض والتمويل الأصغر ولا تنتهي بقيام استخباراتها باعتقال الناس.
بدل أن تكون الفترة الإنتقالية فترة لبناء دولة حديثة، ذات سيادة، وبمؤسسات راسخة ومهام وسلطات منفصلة، هناك اتجاه واضح لتحجيم دور الدولة واضعافها حتى بين قيادييها في مقابل محاولة غريبة لتفويض مهامها لاجسام أخرى مثل لجان المقاومة، وهذه لوحدها تحتاج فصلاً مستقلاً للحديث عنها وعن توسعها على حساب مؤسسات الدولة ومهامها مثل حفظ النظام والخدمات وحتى الجبايات!.
هذا الإتجاه للأسف تقوده قوى تتعامل آيدلوجياتها وأحلامها مع الدولة الحديثة كشر لا بد من التعامل معه حالياً لصالح تجاوزه مستقبلاً لصالح الطبقة والقومية العابرة للاقطار.
من الواضح أن الدولة في أضعف حالاتها العقلية وحتى المادية، حتى أنها تطلب مهلة من ناظر قبيلة رفض ممثلها في مناطق نفوذه! ذكرنا غير مرة أن الإنقاذ بكل عنفوانها لم تستطع تركيع القبيلة والذي يحدث كان العكس، فقط كانت الإنقاذ أعلم بالتعقيدات الإجتماعية تلك واذكى في التعامل معها، أما الآن الدولة عاجزة تماماً حتى عن محاورة هذه المجتمعات.
دلّني أستاذنا في بداية الفترة الإنتقالية على مقال لعبدالعزيز حسين الصاوي ولخصه لي، حول ترشيد الممارسة في الفترة الإنتقالية، والذي وضع عاتق مسؤوليته على قوى الحرية والتغيير بحسبانها كبير المدنيين والمنتظر منه.
لكن للأسف وباتجاه معاكس تماماً، يغرق خطاب الشركاء المتشاكسون في العنف، حتى في إدارة خلافاتها الداخلية، رغم إدعاءات السلمية وثورة الوعي!!.
من الواضح أن البلاد تتجه لهاوية العنف، فقد بدأت جغرافيا العنف بالاتساع ليشمل أسماء قرى وحواضر لم نسمع بمعاناتها حتى في فترة الإنقاذ، ويبدو أن مشروع “الدولة السودانية الحديثة” الذي ما انفكوا يبشرونا به سيلقى نفس مصير “المشروع الحضاري” ومجايله “السودان الجديد”.
بقلم
سا مح