لم يكن قائد مليشيا بدافور علي كوشيب، مجرد متهم بارتكاب جرائم حرب في الإقليم غربي السودان فحسب؛ بل خزانة أسرار “محرقة” شهدها الإقليم خلال العقد الماضي.
ظهر كوشيب كنبت شيطاني مع اندلاع شرارة الحرب في دارفور عام 2003 بين حكومة المعزول عمر البشير وحركات مسلحة قوامها مكافحون ذوي أصول أفريقية، خرجوا مطالبين بالمساواة السياسية والاقتصادية.
يوصف كوشيب كذلك بأنه شرس ولا يتورع من القتل والحرق، وشكل “البعبع المخيف” للمدنيين في إقليم دارفور أبان الحرب، وسبق له أن بث تسجيل مصورة يعترف خلاله بجرائمه في الإقليم الغربي.
خطورة الرجل وإلمامه بأدق تفاصيل الحرب بإقليم دارفور لكونه أحد أبرز الفاعلين فيها، أثار تساؤلات المراقبون بشأن دوافع الخطوة التي أقدم عليها كوشيب بعد نحو 13 عاما من صدور مذكرة اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية في مواجهته.
وذهبت كثير من التحليلات إلى أن كوشيب وجد نفسها وحيدا ومنبوذنا من قبل المجتمعات المحلية في دارفور عقب إنهاء حكم المعزول عمر البشير، وملاحقا ببلاغات جنائية من قبل الحكومة الانتقالية، وهو ما جعله في حالة هرب مستمرة في أحراش دارفور ومن ثم دخول أفريقيا الوسطى.
فيما ذهب آخرون إلى أن تسليم كوشيب نفسه للجنائية يأتي في سياق تفاهمات تمت، لاستخدامه كشاهد ملك على جرائم نظام الإخوان البائد، وذلك بمباركة أطراف بالسلطة الجديدة في الخرطوم التي تسعى جاهدة لتحقيق العدالة لضحايا الحرب في دارفور.
وفي خضم هذه الآراء ثمة من يرى بأن كوشيب خشي من مآلات التصفية على أيادي عناصر النظام البائد في الخرطوم حتى لا يفشي أسرار الحرب الدارفورية، لكونه يتنقل في مناطق هشة وغير آمنة لحياته، بجانب رغبته في الانتقام لذاته من جماعة البشير التي همشته عقب انتهاء الحرب، ولم تعطه الوضعية السياسية التي كان يحلم بها.
ينحدر كوشيب وهو من مواليد 1957 من مناطق جنوب دارفور، وتعود جذوره إلى قبيلة “التعايشة” أحد أهم المكونات الاجتماعية في الإقليم، وكان يحظى بمكانة كبيرة وسط المجموعات السكانية هناك بوصفه زعيما قبليا.
وبحسب الصحفي السوداني المتخصص في شؤون دارفور محمد علي محمدو، فإن جماعة الإخوان الإرهابية تمكنت من استقطاب كوشيب مع اندلاع الحرب في الإقليم ووقتها كان عسكريا في قوات الاحتياطي المركزي التابعة للشرطة، وجعلته قائدا على مجموعة من المليشيا بينها الدفاع الشعبي التابعة للحركة الإسلامية.
وقال محمدو إن ” كوشيب يحظى بمسيرة دامية، فما تزال ذاكرة الناجين من محرقة دارفور تحفظ وحشية الرجل واقتحامه للقرى التي يسكنها مدنيون عزل، وقتلهم وسحلهم وحرق منازلهم”.
وساهم كوشيب بشكل كبير في عمليات لجوء ونزوح المدنيين نتيجة للهجمات التي نفذتها مليشياته على المجمعات السكنية في محاولة لإخماد حركة الكفاح المسلح في دارفور، بحسب “محمدو”.
وعلى إثر هذه الوحشية التي وثقتها كذلك منظمات حقوقية، أصدرت محكمة الجنايات الدولية في يوم 21 أبريل/نيسان عام 2007 مذكرتي توقيف بحق علي كوشيب، وأحمد هارون وزير الداخلية سابقا، ولحقتهما بمذكرتين آخريين بحق المعزول عمر البشير ووزير دفاعه عبدالرحيم محمد حسين، وعبدالله بندة من جانب المتمردين.
ويتهم كوشيب، بأنه كان أحد أكبر القادة في تدرج المراتب القبلية في محلية وادي صالح وكان عضواً في قوات الدفاع الشعبي، وقائداً لآلاف من قوات ميليشيا بدارفور من أغسطس 2003 إلى مارس 2004 على وجه التقريب.
ويواجه الرجل أيضا اتهام بتنفيذ استراتيجية الحكومة السودانية الخاصة بالقضاء على التمرد في إقليم دارفور غربي البلاد، والتي صاحبتها انتهاكات إنسانية جسيمة، وفق محكمة الجنايات الدولية.
عاش كوشيب عقب صدور مذكرة التوقيف بحقه كسوداني عادي في معقله بإقليم دارفور محتميا بمليشيات قبلية بمباركة حكومة البشير، ولم يحظ الرجل بمكافآة سياسية من نظام الإخوان البائد بتلقد منصب رفيع في السلطة كما كان يتطلع بعد حسم الحركات المسلحة، لكنه وجد الملاذ الآمن آنذاك.
لكن أوراق كوشيب اختلطت عقب سقوط نظام الإخوان بقيادة البشير في 11 أبريل 2019، وبدأ في رحلة بحث عن ملاذ آمن وطوق نجاة من ملاحقة السلطة الجديدة في البلاد، قبل المحكمة الجنائية الدولية، لكن لا أحد كان يتوقع وصوله إلى لاهاي، وفق ما ذكر سياسي سوداني.
وقال السياسي الذي فضل حجب اسمه: “أصدرت الحكومة السودانية أوامر بالقبض على كوشيب في عدد من الجرائم، وفور تلقيه هذه الأخبار هرب إلى منطقة أم دافوق بولاية وسط دارفور محتميا بمليشيات قبلية، وكان ذلك قبل حوالي 4 أشهر”.
وأضاف السياسي السوداني لـ”العين الإخبارية: “عندما أحس كوشيب بالخطر، هرب إلى داخل دولة أفريقيا الوسطى المحاذية لإقليم دارفور، لكن الوضع الأمني في بانغي كان هشا وتوجد العديد من البعثات الأممية، وهو ما صعب مهمة الرجل ورحلة بحثه عن الملاذ الآمن”.
وتابع: “لا أعرف على وجه الدقة الملابسات التي قادت كوشيب لتسليم نفسه إلى مكاتب الجنائية الدولية بعد سنوات من الهروب، ولكن الثابت أن الخناق قد ضاق به ووجد طريق لاهاي الأقرب الذي يوفر له الأمن والمعاملة الكريمة بدلا عن المغامرة التي قد تكلفه رقبته”.
ويرى المحلل السياسي السوداني علاء الدين بابكر، أن خطوة كوشيب فرضتها عليه فقدانه الحاضنة السياسية بعد عزل البشير، والاجتماعية عقب تحول النظرة القبلية من داعمة للمجرمين إلى نابذ لهم عقب التغيير السياسي.
وتوقع بابكر، الذي تحدث لـ”العين الإخبارية”، أن يكون الرجل أقدم على هذه الخطوة بعد استشارات عديدة، نصحته بتسليم نفسه للجنائية، لعلمه بأنه سينجو من عقوبة الإعدام وسيبتعد عن كماشة المحاكم السودانية”.
وخلف الصراع في إقليم دارفور مليوني ونصف لاجي ونازح ونحو 600 ألف قتيل وفق إحصاءات الأمم المتحدة، وصاحب ذلك انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ترتقي لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وفق منظمات حقوقية.
الخرطوم : مرتضى كوكو
(العين الاخبارية )