عبدالله علي إبراهيم يكتب.. عن أولاد البحر وأولاد الغرب والمهدية في مسرحيتي “الجرح والغرنوق” (1972-1973) (1-2)
عن أولاد البحر وأولاد الغرب والمهدية في مسرحيتي “الجرح والغرنوق” (1972-1973) (1-2)
عبد الله علي إبراهيم
اتصل في أول الحرب الدكتور أبو القاسم قور وتذاكر معي مسرحيتي “الجرح والغرنوق” حيال ما ثار يومها حول المهدية والبقارة والجلابة. وذكر مشهداً من المسرحية اجتمع فيه أهل القرية بزعامة سالم حامدوك (أداءه على المسرح مكي سنادة في المسرحية التي أخرجها أسامة سالم في 1988) لاتخاذ قرار بمقاومة قرار للمفتش الإنجليزي بإنشاء محطة للبواخر فوق أرضهم. وكان من بين شهود المجلس قيدوم (نسيت من قام بدوره) وهو من البقارة قاتل في جيش المهدية في الشمال ثم أقام في تلك القرية في ملابسات هي موضوع النص أدناه. وربما كانت المسرحية المسعى الوحيد لنظم العلاقات العرقية والتاريخية في عمل إبداعي بخلاف من ظلت هذه العلاقات عندهم “أدي الحلة عيطة، وأدي النقارة عصا” نصلاً في معمار معارضتهم للأنظمة المستبدة التي لم تبرحنا. وقبضنا الريح.
وقف قيدوم في طور من الاجتماع قائلاً:
قيدوم: يا ناس أنا غريب بينكم بدوي من عرب البقارة. وحكمة كلام الغريب في تجرده. وهذه نقطة ضعفه أيضاً لأن الآراء بنات الأهواء. تعرفون كيف استغربت الضفادع رأي أبي الحصين في شأن من شؤونهم
سالم: ما احجنا أبداً لنذكرك بغربتك. فلا وجه لك في مالم نسمح به لأنفسنا.
قيدوم: وكان هذا ثمن أن أحجب وجهة نظري. أن أتكلف الانسجام مع ما تقولون.
رجل (3) من أين لك وجهة نظر يا صانع الأحذية. الأقدام أبعد أعضاء الجسم من العقل.
قيدوم: أية مشاجرة في البلد لم تبرهن فيها على موضع العقل منك. تذكرون قدومي لبلدكم.
سالم: كنت جريحاً ومغمى عليك في ظهر البلدة. ضمدنا جراحك وآويناكم وزوجناك فينا وصرت واحداً منا.
الفكي السوس: أذكر أن أبي لم يرحب بإقامتك بيننا قال عالجوه وأخلوا سبيله. فالبقارة قوم إذا انقطعت سعيتهم عرضوا مهدية حتى يشبعوا في النعم. وما يفيق هذا البقاري حتى يفعل مسيب أهله.
قيدوم: أصابتني رصاصة في ساقي في قتال الترك. قررت أن أضرب في الخلاء ولا أدنو من النيل. كنتم في نظري جماعة كافرة. بخلتم علينا بالغذاء والمأوى. أخفيتم الذرة في المطامير ودعوتم أولياءكم ليمسخوها حصى حتى لا تصل يد المهدية إليها. وحين التحمنا بالترك كنا جيشاً ويائساً وضجراً. قررت أن أحمل ساقي الجريحة نحو الصحراء. وأن أموت في بقعة صامتة نظيفة، وتأملت جرحي بانتباه. كان جرحاً جميلاً. نزيف الدم كنبع ماء شهدته في صباي بجبل مرة. يتوضأ جرحي بالدم وضوء الحجر بالنبع. قلت لنفسي ليس من حقي أن أحجب هذا الجرح الجميل عن عيون الآخرين. ربما انقضى زمان مديد دون أن يروا جرحاً في وسامة جرحي. ربما أموت فليبقى جرحي وشماً في ذاكرة من يرونه. وتدحرجت نجو البلدة.
سالم: لو لم تكتشفك امرأة مخبولة مصادقة لكان جرحك الجميل طعاماً لصقور الجو.
قيدوم: فتحت عيوني. كان ما حولي غائماً. لم أشهد سوى أطراف عمائمكم ترف على رؤوسكم. ذكرتني بالغرنوق. الطائر الأبيض الذي يفد إلى باديتنا في الخريف. ما أدري للآن لماذا تمثل لي الغرنوق حين اصطفقت أطراف عمائمكم. ما كنت أؤثره بشيء في نفسي. ففي باديتنا نرعى البقر لا شيء سواها. بدا لي يومها وكأني لم أشهد ما يضاهي الغرنوق وضاءة واعتداداً بالنفس. يمشي على شاطئ الأضاءة فكأنه يبتدع المشي على الأرض. يفرد جناحه محلقاً في سماء الخريف المبتلة بالغيم فكأنه أنفاس الشجر والعشب. عف المنقار لا يغمسه في كل سانحة من طعام. كأنه يعيش على الندى والأريج.
الرجل (1). يا قيدوم الإنسان يؤنسه غرضه. وليس في ما تقول صلة بغرضنا.
قيدوم: حبل المهلة يربط ويفضل. تمثلت لي عمائمكم كسرب من الغرانيق. وتفحصت جرحي ثانية. كانت غصة تعترض حلقي. وكأني أشهق: لقد انهزما! لقد انهزمنا!
سالم: من الذي انهزم؟
ونواصل