وجه الحقيقة |
أصدر الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة، قرارًا بتشكيل لجنة قومية عليا لتهيئة ولاية الخرطوم، برئاسة عضو المجلس الفريق إبراهيم جابر، وعضوية عدد من أعضاء السيادة والوزراء التنفيذيين، وذلك في توقيت مهم من عمر الدولة السودانية، تتقاطع فيها حسابات الأمن والسياسة، وتختلط فيها معادلات الانتقال الي مرحلة جديدة.
حمل القرار صلاحيات واسعة للجنة، شملت: تفريغ العاصمة من كل القوات المقاتلة، إزالة السكن العشوائي، تأمين المدينة، ترحيل الأجانب المخالفين، واستعادة الخدمات الأساسية. وبدأ القرار كمحاولة لإعادة ترتيب أوضاع الخرطوم ومعالجة التشوّهات التي خلّفتها الحرب. غير أن هذه الصلاحيات، بحسب مراقبين، تعكس توجهًا نحو إعادة هندسة العلاقة بين السلطة المركزية ومكونات الحكم المدني والعسكري.
ويطرح القرار عدة إشكالات على مستويات متعددة، أبرزها أن تشكيل لجنة ذات صلاحيات تنفيذية ، تضم وزراء في الحكومة المدنية القائمة، وعلي رأسهم رئيس الوزراء د. كامل ادريس، يعيد إنتاج نموذج “الحكومة الموازية”، ويثير تساؤلات دستورية بشأن مدى احترام الوثيقة الدستورية المعدلة لعام 2025م.
صحيح أن البعض يبرر هذه الخطوة بالظرف الأمني الاستثنائي، ويستند إلى بعض التعديلات التي منحت مجلس السيادة دورًا أوسع في إدارة شؤون الولايات، إلا أن التداخل المباشر مع وزارات الطاقة والتعليم والصحة والداخلية والمرافق الحيوية، قد يُضعف من سلطة مجلس الوزراء. كما أن غياب وزير المالية، المسؤول عن تمويل مشروعات إعادة الإعمار وضمان التزامات الدولة، يُعد نقطة ضعف لافتة في تكوين اللجنة.
ولكي تنجح اللجنة في أداء مهامها، ينبغي أن يكون مقرها داخل ولاية الخرطوم نفسها. فالإدارة عن بُعد أو عبر التقارير لا تصلح في وضع معقد كالوضع الراهن. التحديات الميدانية تتطلب حضورًا فعليًا، وتفاعلًا مباشرًا مع الجهاز التنفيذي، واستعدادًا لاتخاذ القرارات . كما أن تمركز اللجنة بالعاصمة يبعث برسالة قوية للمواطنين والمجتمع الدولي مفادها أن الدولة جادة في إعادة بناء مؤسساتها، وأن السيطرة على الخرطوم قد اكتملت .
الشق الأمني في القرار يُعد بالغ الأهمية، إذ يعيد ترتيب مشهد التواجد المسلح في العاصمة، محددًا من يحق له البقاء فيها، ومن ينبغي أن يُنقل إلى جبهات القتال أو معسكرات التدريب. فوفق المعايير الأمنية المهنية، لا يجوز تواجد سوى القوات النظامية ذات الطابع الأمني والمدني داخل المدن، مثل الشرطة، والشرطة العسكرية، والمباحث، والأمن العام، والاستخبارات، والمخابرات. أما القوات القتالية والمدججة بالسلاح، فمكانها الطبيعي خارج المدن، في معسكرات الإعداد أو خطوط النار، لا بين الأسواق والمستشفيات والأحياء السكنية.
ما يحدث حاليًا من بقاء قوات حركات الكفاح المسلح – رغم توقيع اتفاقيات السلام – داخل المدينة، يثير تساؤلات مشروعة. فقد باتت بعض هذه القوات تتخذ مواضع داخل العاصمة، وتشكّل أحيانًا مراكز سلطة موازية، ما يهدد السلم الاجتماعي ويضعف من هيبة الدولة.
المواطنون، من جهتهم، لم يعودوا يحتملون تكرار المشاهد التي عاشوها خلال فترة ما قبل الحرب، حين كانت قوات الدعم السريع تسيطر على مفاصل الدولة، ثم تحوّلت إلى مصدر للفوضى خلال الحرب. ولذا، فإن عودة أي مظاهر مسلحة – حتى تحت لافتة “السلام” – ستُقابل برفض شعبي واسع، فقد الناس الثقة في كل من يحمل السلاح خارج إطار الدولة الرسمي والمنضبط.
ومن أوجه القوة في القرار، أنه لم يستثنِ القوات المسلحة من الترتيبات الجديدة، بل طالب بإعادة تمركز وحداتها القتالية ، في إطار إعادة تعريف دور الجيش كقوة وطنية لحماية السيادة . ومع ذلك، قد تفرض الظروف الاستثنائية وجودًا عسكريًا محدودًا ومنظمًا، يتمركز في أطراف المدينة أو في معسكرات الطوارئ، بما لا يخل بالتوازن الأمني ولا يُقوّض الطابع المدني للعاصمة.
هذا التوازن بين الردع الأمني الحاسم والحفاظ على مدنية الفضاء العام، هو مفتاح الاستقرار الحقيقي.
وبحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة، فإن القرار يعكس توجهًا واضحًا نحو ضبط الأوضاع الأمنية في العاصمة، وترسيخ مركزية الدولة، لكنه في ذات الوقت يشكّل اختبارًا حقيقيًا لمدى جدية السلطة الانتقالية في الانتقال من منطق السيطرة إلى حكم القانون والحكم الرشيد.
وبين هاتين النقطتين، تتبلور ملامح الدولة السودانية الجديدة ما بعد الحرب.
دمتم بخير وعافية.
الأحد 20 يوليو 2025م Shglawi55@gmail.com