خرج الآلاف من السودانيين في مظاهرات ومواكب حاشدة في العديد من الولايات السودانية حملت شعار “مليونية الغضب”، السبت، رفضًا للاجراءات العسكرية ، وذلك للمرة الثالثة منذ قرارات قائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان، وسط إجراءات أمنية مشددة قوضت قدرة المتظاهرين على الوصول إلى بؤر التأثير السياسي في الخرطوم.
واستخدمت الأجهزة الأمنية قنابل الغاز المسيل للدموع بكثافة في مواجهة المحتجين وانتشرت على نحو واسع في المناطق العامة والأسواق وطالبت المواطنين بالتزام منازلهم وعدم الخروج إلى الشارع، عكس المرات السابقة التي اكتفت فيها بتأمين المسيرات ومنع خروجها عن السلمية.
واستفادت الأجهزة الأمنية السودانية من تجارب داخلية وخارجية سابقة استطاعت تحجيم حركة الشارع، وفصلت أمنيًا بين مدن ولاية الخرطوم الثلاث (أم درمان – الخرطوم – بحري)، كما أغلقت معظم الجسور المؤدية إلى العاصمة وأطلقت قنابل الغاز المسيل للدموع لتفريق المتظاهرين داخل المواكب الصغيرة قبل انضمامهم إلى مسيرات كبيرة، وأحكمت قبضتها على المناطق الحيوية.
أماني الطويل: البرهان حصل على ضوء أخضر من مبعوث بايدن
ويقول مراقبون إن قدرة الجيش على تمرير جزء من مخططاته بتعيينه مجلسا جديدا للسيادة دون أن يلقى معارضة دولية كبيرة جعلته أكثر قدرة على استخدام أساليب خشنة في التعامل مع احتجاجات الشارع، كما أن غياب جزء من الغطاء الحزبي عن المظاهرات جعل قادة الجيش يشعرون أنهم يقفون على أرضية صلبة يمكن التحرك على أساسها لاتخاذ إجراءات أمنية أشد قسوة في التعامل مع المتظاهرين.
وخفت حضور الأحزاب السياسية عن المشهد الذي تصدّره تجمع المهنيين السودانيين وتنسيقيات لجان المقاومة وحددتا أماكن المظاهرات ونقاط انطلاق المسيرات، ما يشير إلى أن هناك مزيدا من المباحثات تجري بين أطراف سياسية حول طبيعة التعامل مع قرارات البرهان، لأن قبولها كأمر واقع سيكون من الصعب الرجوع عنه بذريعة انتظار أيّ تطورات سياسية أو عسكرية تقلب موازين القوى.
وأكد مصدر سياسي لـ”العرب” أن هناك مفاوضات تجري بين تحالف الحرية والتغيير (المجلس المركزي) بقيادة حزب الأمة القومي وبين المجموعة المنشقة عن التحالف (الميثاق الوطني) بقيادة الحركات المسلحة لإعادة التوحد على قاعدة سياسية تتعامل مع الواقع الحالي وتضمن استمرار المرحلة الانتقالية إلى حين إجراء الانتخابات.
وشدد المصدر ذاته أن مليونية الثالث عشر من نوفمبر تأثرت بالمشاورات التي تجريها تلك القوى للوصول إلى صيغة يمكن أن يقبل بها عموم المواطنين وتحظى برضاء الجيش أيضًا، وأن تلك الأطراف تحاول الحصول على ضمانات لإجراء الانتخابات في موعدها.
وتحاول قوى سياسية الاستفادة من أخطائها وتقيس توجهات الشارع لتستطيع مسايرته وترفض أن تكون لها مواقف بعيدة عن هوى قطاعات واسعة وتنتظر إلى أيّ مدى ستؤول الأمور قبل أن تحسم مواقفها بشكل نهائي، وربما يكون ذلك نفس موقف الحركات المسلحة التي تتبنى رؤية رمادية حتى الآن.
ولم تكن المظاهرات التي تركزت على الخرطوم بنفس الزخم الذي كانت عليه منذ اندلاع ثورة ديسمبر التي أطاحت بنظام الرئيس السابق عمر البشير، وليست بقوة مسيرات الحادي والعشرين والثلاثين من أكتوبر الماضي، وهو ما أثار شكوكا حول إمكانية توظيف الشارع كورقة مؤثرة بيد القوى المدنية يمكن أن تستخدم في الصراع مع العسكريين.
ومع أن القوى السياسية توحدت على الدعوة إلى المسيرات وتبنت خطابات غازلت فيها الشارع واعتبرته المؤثر الأكثر قدرة على تغيير المعادلة الحالية، إلا أن عدم توحّد أهدافها من التظاهر وانقسام الأحزاب حول طريقة التعامل مع الجيش وعدم التوافق حول الدخول في شراكة جديدة مع العسكريين وسط وجود أصوات ترفض أي تنسيق جعل هناك مخاوف من إعادة الدوران في دائرة الخلافات السياسية مرة أخرى.
مجدي عبدالعزيز: مظاهرات السبت محدودة مقارنة بمسيرات سابقة
وقال المحلل السياسي السوداني مجدي عبدالعزيز إن مظاهرات السبت بدت محدودة مقارنة بمسيرات سابقة وعادت الحياة إلى طبيعتها في بعض المناطق التي شهدت عصيانا مدنيا من قبل، بالتالي فإنها لن تؤثر على خطوات الجيش نحو تثبيت أركانه في السلطة كما أنها لن تؤثر على استكمال تشكيل الحكومة الجديدة وما يترتب عليها من إجراءات أخرى على مستوى هياكل الحكم الانتقالي.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن الشارع لعب دوراً مؤثراً في الصراع السياسي خلال العامين الماضيين عندما كانت القوى السياسية موحدة قبل أن يصيبها التشظي، وأن دخول الحركات المسلحة وعددا من المكونات في معادلة الصراع جعل الشارع أكثر تفتتًا ولم يعد لديه نفس التأثير السابق نتيجة تعدد الأجندات والأهداف السياسية.
ويرتبط تراجع ورقة الشارع بانخفاض نبرة الانتقادات الخارجية للجيش السوداني، مع خفوت الحديث عن عقوبات مباشرة وقلة اكتراث الجيش بما يصدر من جهات ومؤسسات دولية لم تنخرط بشكل كبير في اقتصاد السودان.
وبدت قوى سياسية في الداخل متيقنة من أن عدم وفاء المجتمع الدولي بتعهداته في دعم المرحلة الانتقالية على المستوى المالي يجعلها تدرك بأن أوراق الحل الاقتصادي مازالت في جعبة المؤسسة العسكرية.
وأوضحت مديرة البرنامج الأفريقي بمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية بالقاهرة أماني الطويل أن الشارع لن تكون لديه تأثيرات قوية في المشهد الحالي، وهناك إرادة سياسية لدى البرهان وفريقه في تحدي الداخل والخارج، لأن ردة الفعل الدولية على تشكيل المجلس السيادي الجديد وعودة تفعيل بعض بنود الوثيقة الدستورية كان باهتًا، بعد أن بدت من الناحية الشكلية تستجيب للمطالب الغربية.
وأشارت لـ”العرب” إلى أن ما يحدث الآن يعزز فرضية أن البرهان حصل على ضوء أخضر من المبعوث الأميركي للقرن الأفريقي جيفري فيلتمان للإقدام على تحركاته الأخيرة، وإزاحة قوى الحرية والتغيير من المشهد بسبب انقسامها، إلى جانب أن بعض أحزابها تحمل صبغة يسارية تقلق واشنطن، لذلك لم يجر اتخاذ موقف دولي صلب في مواجهة قرارات البرهان.
وفي حال لم يكن الشارع السوداني مؤثراً في هذه المسارات فالبرهان سيكون ربح المعركة واستطاع احتواء الموقف، إلا إذا طرأت تحولات سياسية أو عسكرية تقرّب التوازنات التي قام الجيش على أساسها بالتحرك بالصورة الراهنة.
العرب اللندنية