الاحاجى السودانية

العدالة الإنتقالية في السودان إلي أين تسير ؟

تجاهل الانتهاكات الواسعة التى طالت ملايين السودانيين، قد يكون مهرباً سهلاً، بيد أنه يدمر القيم وجعل الاستقرار في كافة الأصعدة مستحيلاً، وطوال الـ 30 عاماً الماضية، ارتكب النظام البائد، إنتهاكات فظيعة ضد مجموعات إثنية بعينها خاصة في أقاليم دارفور وجبال النوبة والفونج، تركت جروح غائرة، وجعلت بعض رموزه مطلوبين لدى المحكمة الجنائية الدولية.

أتلفت تلك الانتهاكات بشدة أي ثقة في الدولة لضمان حقوق وسلامة المواطنين، بسبب عمق الجروح وتمزق المجتمع، الأمر الذي يستوجب تحقيق العدالة الإنتقالية في البلاد.

وبعد تغيير نظام الرئيس المخلوع، رفع السودانيين خاصة أسر الضحايا، سقف آمالهم بإصلاح المؤسسات السياسية والقانونية مثل البرلمان والقضاء والشرطة والنيابة العامة، لتحقيق العدالة لهم، والبدء في بناء دولة المواطنة، غير أن ذلك لا يزال في حكم الاحلام.

تهديد الفترة الإنتقالية

ويرى المدافع عن حقوق الإنسان، عبدالباسط محمد الحاج (المحامي) أن ما يهدد الفترة الانتقالية في السودان حقاً هي عمليات تجزأة قضايا العدالة لجهة أنها أخطر عملية مدمرة للانتقال الديمقراطي عامة، مضيفاً أن قضايا العدالة، يجب أن تنظر فيها بشكل شامل ومضبوط بعيداً عن تشتيت الجهود الذي تقوم به الحكومة بمختلف مراحلها.

ومضى بقوله : بما أن الحكومة الإنتقالية، قد قسمت القضايا، فلا يمكن النظر فيها إلا بشكل عمومي إلي أجزاء منفصله تعطل مسار تحقيق العدالة.

مؤكداً أن الدول التي تخرج من النزاعات، تمثل ثقافة الإفلات من العقاب تمثل نقطة إنطلاق لمعالجة فظائع الماضي، وتمكين العدالة عبر محاسبة المجرمين وتقديم المسؤولين السابقين للقضاء، وسجن بعضهم، مشيراً إلى أن ذلك تحدي حقيقي يختبر الإرادة السياسية لحكام الفترة الإنتقالية على توطين وتوطيد أركان الانتقال الديمقراطي، وبناء نظام عدلي متين قادر على كسح عتاة المجرمين من النظام السابق الذين لا زالوا طلقاء.

معادلة مختلفة

وشدد على أن عدم تحقيق العدالة والإنصاف للضحايا ومحاربة الإفلات من العقاب بشكل صارم، قد يؤدي إلى تشكيل معادلة مختلة.

وإعتبر أن ن ظاهرة الإفلات من العقاب، أكثر الظواهر تكراراً في التاريخ السوداني الحديث، وشكلت حجر عثر أمام كل المحاولات لإقامة نظام سياسي مستقر، وإعتبرها أيضاً عقبة تواجه المرحلة الإنتقالية الحالية في البلاد.

أياً كانت الأمور، يقول الحاج : إن الموقف تحتم علي السودانيين، تشكيل حركة وطنية واسعة للوصول إلى نظام حكم ديمقراطي، وأن تحقيق السلام الدائم، يبدأ بمحاربة الإفلات عن العقاب.

فوضى شاملة

وأعرب الحاج، عن خشيته من أن يؤدي عدم تطبيق العدالة الإنتقالية، إلي الفوضى والإنتقام الشاملين.

وأعائب إتفاقية جوبا، لجهة أنها تحدثت بصورة عامة عن العدالة، الأمر الذي يصعب تطبيق العدالة الإنتقالية، ويشتت الجهود السياسية، بين الإتفاقية الوثيقة الدستورية، وما سيأتي لاحقاً من توافقات، علاوة على ضعف الإرادة السياسية.

وذكر أن ثمة سبب آخر، وهو أن هيمنة المتورطين في الجرائم على المشهد السياسي، وأماكن إتخاذ القرار، مما صعب تحقيق العدالة الانتقالية، وعطل تطبيقها، وأكد على أن العدالة، تبدأ بمحاسبة القيادات العسكرية والسياسية، وقادة المليشيات التي تعاونت ونفذت معظم العمليات العسكرية في البلاد.

رفض التفاوض

وقال الحاج : إن عدم تحقيق العدالة، هو أول سبب يجعل المجموعات غير الموقعة على إتفاق السلام، تتمسك بموقفها الرافض للمفاوضات، لجهة أنه لا يمكن ذبح العدالة، مقابل السلام، وأنه لا سلام دون عدالة، وأضاف بقوله :
إن محاكمة المجرمين وتحقيق العدالة للضحايا، يمكن السودان على طي صفحة الماضي، وبناء بلادهم.

ويرى مختصون أن ضمن أهداف العدالة الإنتقالية، إنشاء مؤسسات خاضعة للمساءلة واستعادة الثقة فيها، جعل الوصول إلى العدالة ممكناً للفئات الأكثر ضعفاً في المجتمع في أعقاب الانتهاكات، وضمان لعب النساء والمجموعات المهمشة، أدوار فعالة لتحقيق مجتمع عادل.

فضلاً عن إحترام سيادة القانون، وتسهيل عمليات السلام، وتعزيز حل دائم للصراعات، وإقامة أسس لمعالجة الأسباب الكامنة وراء الصراع والتهميش، وإجراء المصالحات الاجتماعية والسياسية…

إنعدام المحاسبة

واستنطقت ”صوت الهامش“ الناشطة والباحثة السودانية فى مجالات المساواة والعدالة الاجتماعية، والمديرة الاقليمية لشبكة ناء القرن الافريقي (صيحة)، هالة الكارب، التي قالت : إن إنعدام المحاسبية التي تتمتع بها المليشيات المسلحة، واحدة من المعضلات الأساسية للوصول للسلام والعدالة، وأشارت الكارب، إلى عدم تقديم أي معتدٍ للعدالة لارتكاب أياً من المجازر العديدة التي وقعت، ولم تتلقى أُسر الضحايا، أيّ اعترافٍ أو اعتذارٍ رسمي أو تعويض عن الفقد والظلم الذي تعرضت له.

الحصانة

وإضافة إلى ذلك، تقول الكارب : إن مرتكبي الجرائم بما في ذلك جرائم القتل والعنف الجنسي، يتمتعون بالحصانة التامة بموجب القانون.

يحدث هذا بينما تتقاعس مؤسسات الدولة في السودان عن التصدي لجرائم القتل والتنكيل والاغتصاب ضمن إطار القوانين والسياسات، فلا تزال تواجه الناجيات من جرائم الاغتصاب إتهامات الزنا والتجريم عبر المنظومة القانونية الحاليه، على حد تعبير هالة الكارب.

تهديد خطير

وأوضحت أن ما وصفته بوهم الاستقرار الذى يتم الترويج له في أقاليم دارفور، ومناطق النزاعات الأخرى، أدّى إلى تفاقم الانتهاكات فيها، كما أن ضعف وغياب حكم القانون ضمن العوامل التي تشكل تهديد خطير، للسلام والأمن في جميع أنحاء السودان، لا سيما خلال الفترة الانتقالية ”الهشة“.

وقعطت الكارب بقولها : لا يمكن الوصول إلي العدالة في ظل منظومة قانونية صممت لتجريم السودانيين، بناء علي النوع الإجتماعي العرقي والثقافي والطبقي، ولا يمكن الوصول للعدالة دون وجود مؤسسه عدليه وقانونية قادرة علي إنفاذ العدالة وملتزمه باستحقاقات المواطنة المتساويه، ولن يحدث ذلك دون إرادة سياسيه ورؤية واضحة لعملية الانتقال.

انتهاكات غير مسبوقة

من جهته، قال عضو هيئة الإتهام والناطق الرسمي باسم هيئة الاتهام في بلاغ مدبري إنقلاب الـ 30 من يونيو، إن النظام البأئد إرتكب انتهاكات كالقتل خارج القانون والتعذيب، في جميع أقاليم السودان، غير أن دارفور تعرضت لانتهاكات غير مسبوقة، لا سيما جنوب كردفان والنيل الأزرق وجنوب السودان قبل انفصاله، مضيفاً أن الانتهاكات القائمة على النوع الإثني، دفعت جنوب السودان للانفصال، وهناك أقاليم لا تزال تطالب بالانفصال بسبب هذه الانتهاكات الاثنية.

مشيراً إلى بطء سير العدالة وتأخير تكوين مفوضية العدالة الانتقالية، وقانونها، مشدداً على ضرورة قيامها وتطبيق العدالة الانتقالية لرأب الصدى وسط المجتمع السوداني، وأضاف أنه دون الاعتراف بالانتهاكات، لن نستطيع اصلاح مجتمعنا، وما حدث من انتهاكات في دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة، ستظل في نفوس الضحايا.

التأثير على العدالة

ويرى حضرة، لدى حديثه لـ ”صوت الهامش“ أن هيمنة النظام البائد على مفاصيل بعض المؤسسات، أثر على سير العدالة، وأن التغيير الذي حدث ليس متوقعاً لدى السودانيين، مستبعداً إحداث استقرار وسط المتحمع دون تطبيق العدالة الإنتقالية.

مقللاً من صعوبة تحقيق العدالة الانتقالية، إذا توفرت الإرادة، وأضاف حضرة قائلاً : إن التقاطعات والانفلاتات التي تحدث أحياناً، أوقفت مشاريع كثيرة، وأستدرك : لكن بعض التوقيع على إتفاقية جوبا، لا شيء يوقف تحقيق هذه العدالة.

كما إستبعد حضرة، أن يشجع عدم تحقيق العدالة الانتقالية، الحركات غير الموقعة على إتفاقية جوبا، لرفض المفاوضات مع الحكومة الإنتقالية، بل يكون ذلك دافعاً لها، لطرح العدالة الإنتقالية كأولوية في مفاوضات السلام، والاصرار على تطبيقه، لجهة أنها تمثل صمام الأمان لجميع السودانيين، لإزالة المظالم.

المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بن سودا مع وزير العدل السوداني نصرالدين عبدالباري . صورة ل(أ ف ب)
المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بن سودا مع وزير العدل السوداني نصرالدين عبدالباري . صورة ل(أ ف ب)

وكانت وزارة العدل السودانية أعلنت انتهاء صياغة مشروع قانون مفوضية العدالة الانتقالية التي نصت عليه اتفاق سلام جوبا .

وقال وزير العدل نصرالدين عبدالباري الشهر المنصرم ، أن المفوضية منوطة للاستماع الى الضحايا في جميع انحاء السودان والتشاور معهم وتقديم مقترحات بشأن مشروع قانون للعدالة الانتقالية .

أولويات

وتقول الناشطة السياسية السودانية، نجدة منصور، إنه في عهد نظام الإنقاذ، وقع الظلم علي الجميع، مما قاد البعض تسمية وسط السودان بالمركز وأطرافه بالهامش.

وشددت على أن المظالم التي وقعت في مناطق الحرب تمثل أولى أولويات الجهات المستهدفة بالعدالة الإنتقالية، التي تبدأ بالأكثر تضرراً ولا تستثني أحداً، وأردفت بقولها : لا يمكن وضع تجربتي في الاعتقال، وحقي في الحصول علي الانصاف كقضية أكثر تعجلاً عن قضية نازحة تأثرت بالحرب وأهمية حصولها علي الاعتراف وجبر ضررها وتعويضها، وضمان عدم التكرار تلك المظالم.

وأشارت منصور في حديثها لـ ”صوت الهامش“ إلى ضرورة إخضاع قضايا القمع السياسي، أيضاً لمعالجات من منظار العدالة الإنتقالية.

العنف الممنهج

وأكدت على أن نظام الإنقاذ، مارس العنف الممنهج ضد كل الحركات الاجتماعية والسياسية والمسلحة التي طالبت بالحق التساوي والعادلة في المواطنة، وصعد ذلك وتيرة عنفه، وفتن الناس من خلال الصراعات القبلية كسلاح فتاك للاقتتال والتجييش ونشر ثقافة العنف، لأجل الاستثمار في الحرب.

ونوهت منصور، إلى أن ذلك النبت لا تزال آثاره باقية وسط الناس، لذلك لا يمكن الحديث عن نقلة فعلية بعد الثورة، في مناطق الهامش ومناطق الحرب والمتأثرة به، وأضافت قائلة : ”نحن نري الأحداث الدموية المتكررة حتي الآن في تلك المناطق ولذات الأسباب“.

وإعتبرت أن العدالة الإنتقالية، تمثل مخرجاً آمناً، ولكنه لن يتحقق بمجرد الشروع في برامج تصالح قبلي، ما لم يتم رد المظالم إلي أهلها، وإتخاذ خطوات جادة تجاه تحقيق العدالة الجنائية لصالح الضحايا ولو لم تتم إتخاذ تلك الخطوات في هذا المسار سيؤدي إلي تهديد عملية التغيير الجارية في السودان، واستمرار الحرب.

إتفاقية السلام

كما أكدت أن لدى الحركات غير الموقعة على إتفاق السلام، شكوك حول جدوي سلام جوبا، وأن ذلك لا يمكن تبديده إلا بعمل واضح علي الأرض كضمان لتلك الحركات حال تقديمها حلول لقضايا التي ما زالت عالقة.

وقالت نجدة منصور، إن الحوار مع الحركات الرافضة لسلام جوبا، فرصة لتحقيق مزيد من المكاسب التي تصب في مصلحة التغيير في السودان ككل، ومن مصلحة الجميع الإنصاد جيداً والتوصل لحلول مشتركة تصب في مصلحة الوطن.

تسويات مع الدعم السريع

مطالبة بتقديم كل المشتبه بهم بإرتكاب جرائم حرب في دارفور، للمحكمة الجنائية الدولية دون إستثناء، مؤكدة أن الجرائم لا تسقط بالتقادم، كما أن سياسة الأمر الواقع فرضت علي الجميع لجهة الإزعان لموازنات القوى، والدخول في تسويات سياسية مع قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي، وبعض عناصر اللجنة الأمنية لنظام الإنقاذ المتورطة في قضايا العنف في المركز، إلا أن المسار الطبيعي للثورة، يجب أن يسير بإتجاه عدم الإفلات من العقاب.

ويشير مفهوم العدالة الانتقالية، إلى مجموعة التدابير القضائية وغيرها التي تطبق لأجل معالجة آثار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.

وتتضمّن تلك التدابير الملاحقات القضائية، ولجان الحقيقة، وبرامج جبر الضرر، وإصلاح المؤسسات، والمساءلة وجبر ضرر الضحايا والاعتراف بكرامتهم البشرية والوطنية.

صوت الهامش

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى