في الوثيقة الدستورية التي تحكم السودانيين الآن .. وفي الباب الرابع عشر .. وعلى امتداد نحو خمس وعشرين مادة .. حددت الوثيقة كل الحقوق التي ينبغي أن يتمتع بها أي مواطن في دولة محترمة .. والدولة المحترمة نعني بها تلك الدولة التي قامت لتخدم المواطن .. لا تلك التي قامت ليخدمها المواطن .. وتشمل تلك الحقوق حق الإقامة وحق التنقل وحق الخصوصية في المسكن وفي المعاملات وحق عدم المساءلة إلا بقانون وحق التنظيم إلخ .. كما تشمل حق التجمع وحق التظاهر وحق الاحتجاج وحق التعبير إلخ .. والذي يتكبد مشاق مراجعة ذلك الباب الموسوم بماهية الحقوق ..في وثيقتنا الدستورية .. سيكتشف دون عناء أن الأستاذ جمال عنقرة من حقه الاحتفاء بتعافيه بالطريقة التي يحب .. وأن من حقه دعوة من يحب .. وأن من حق أي مدعو تلبية تلك الدعوة .. حتى لو كان هذا المدعو هو رئيس المجلس السيادي .. لا مجرد عضو فيه .. بل وبموجب وثيقة الحقوق تلك التي تضمنتها الوثيقة الدستورية .. وبموجب الحقوق التي تمددت على خمس وعشرين مادة .. فمن حق أي عضو في المؤتمر الوطني المحلول أن يلبي تلك الدعوة .. لماذا.. ؟
ببساطة لأن القرار الذي حل المؤتمر الوطني .. كان محض قرار خجول .. بدا وكأن من أصدروه كانوا في عجلة من أمرهم .. أو في حرج من الأمر .. فهل يعقل أن حزباً حكم البلاد لثلاثين عاماً .. وتحكم في كل مفاصلها .. بل تغلغل في كل شرايينها .. تكفي بضع كلمات لتحديد مصيره ..؟ بالطبع لا ..مصير المؤتمر الوطني كان في حاجة لقانون يجيب على كل الأسئلة .. يضع النقاط على كل الحروف .. يقدم نصوصاً قطعية الدلالة .. للبت في كل ما جرى خلال ثلاثة عقود من عمر البلاد .. كان الأمر .. ولا يزال .. في حاجة لقانون يفصل جسد الحزب المكتنز عن جسد الدولة العليل .. وكانت تلك هي البداية الصحيحة للتفكيك ..ولأن ذلك لم يحدث استمر اعتلال الدولة ..!
أيضاً .. ولأن ذلك لم يحدث .. فلا سلطان لأحد على أحد .. إلا بجرم بين .. وليس من بين الجرائم التي حددتها الوثيقة الدستورية .. أو كل قوانين السودان السارية الآن .. القديمة منها والمعدلة .. نص يجرم تلبية دعوة .. حتى ولو كانت سياسية سافرة .. ناهيك عن أن تكون اجتماعية ..فالقرار المعنى قضى بحل الحزب .. ثم ترك لأعضائه الحبل على الغارب ..!
ولكن وثيقة الحقوق التي فصلنا أعلاه محتوياتها في شأن الحقوق .. قد نصت أيضاً على حق التجمع والاحتجاج .. والذين تجمعوا خارج دار عنقرة محتجين .. كفلت لهم الوثيقة الدستورية ذلك .. ولكنها حرمت عليهم فى ذات الوقت .. التعدي على خصوصية المضيف .. وكذلك ضيوفه .. وقد إستخدمت الوثيقة حرفياً كلمة (سلامة) والسلامة يقابلها بالضرورة التهديد .. والتهديد مصدره العنف .. ووفقاً للمواثيق الدولية التي نصت الوثيقة الدستورية على التزام السودان بها .. فالعنف اللفظي يتساوى مع العنف الجسدي .. إن لم يفقه أحياناً .. إذن فالذي مارس العنف اللفظي مستخدماً كلمات عنصرية في ذلك التجمع قد أوقع نفسه تحت طائلة القانون ولاشك ..ويمكن للقانون أن يأخذ مجراه كحق مكفول سواء لصاحب الدعوة .. أو لمن وجهت إليه الإساءة .. أما تحديد من وجه الإساءة .. فهو ليس بالأمر العصي أو المستحيل .. فهذه تصبح مسؤولية الشرطة والنيابة .. عبر سلسلة التحريات الأولية ثم التحقيقات التى سيجريانها إن رفع أحدهم الدعوى فى هذا الشأن ..!
ولكن المفارقة في كل هذا .. أن الذين يرفضون المحاكمات السياسية من خصومهم .. يسعون الآن لتطبيقها على أولئك الخصوم .. ويبدو الأمر كرقص على الشواء .. في أعقاب مأدبة الغداء .. حملة الإدانة تنطلق الآن لتطال كل لجان المقاومة .. بل والمطالبة بحلها .. بينما الحكمة والعقل يؤكدان .. أن من مصلحة الجميع الاحتكام إلى القانون ..!
صحيفة السوداني