السودان اليوم :
الشباب هم رأس الرمح الخارق والحارق في أي عملية ثورية نضالية سيما وإن كانت تلك القضية وطنية قومية نجد فيها صوت الثائر الشاب أعلى من صوت غيره لذلك سطرالتاريخ عبر معظم الحقب والأجيال داخلياً وخارجياً أدبيات الملاحم الثورية والأناشيد الحماسية بصوت الشباب سواء كان ذلك عن طريق نظم القريض أو أداء المفردات والكلمات حيث شهد الرصد قلة قليلة لشعراء كبار وفنانين أكبر في مقدمة الصفوف الثورية والملاحم الشعرية فانطلق صوت الشباب يعبر بكل كوامنه الحسية والعاطفية والقتالية تجاه قضيته وفكرته متمرداً على كل الخطوط والقيود.
(السوداني) رصدت عبر حقب وأجيال مختلفة علو كعب الشباب في الأدب الشعري والغنائي في تلك الحصيلة التالية .
الخرطوم: سعيد عباس
خليل العازة أبو الثوار
يعتبر الفنان والشاعر خليل فرح من كبار الثوار في حقبة الاستعمار الثنائي حيث ناهض بأغنياته وأناشيده كل الأنظمة الاستعمارية وقتذاك الحين وخليل فرح المولود في عام 1894م في قرية دبروسة بجزيرة صاي كتب العديد من الأعمال والأشعارالثورية المناهضة للمستعمر في ذلك الحين إلا أن خليل فرح يختلف كثيراً عن بقية شعراء الثوار ومغنييهم بأنه كان يكتب الشعر بنفسه ويلحنه ويؤديه، وقد كتب معظم ملاحمه الثورية وهو ابن العشرين ويعرف أن الخليل توفى في ريعان شبابه وهو في منتصف الثلاثينيات أو يزيد حيث جابه المستعمر وقال نحن ونحن الشرف الباذخ دابي الكر شباب النيل نحن حمايتك ونحن فدايتك نحن نموت ويحيا النيل
فردد الثوار تلك الملحمة الضارية في العديد من المناسبات الثورية والتظاهرات ثم أعقبها بإلياذته الشعرية الرائعة التي وضعها مؤتمر الخريجين شعاراً للعديد من المناسبات الوطنية (عازة في هواك) حيث أوغل في الرمزية الشعرية والعاطفية وجعل من الوطن معشوقة رمز إليها (بعازة) فجعل الشباب يترنمون بها في وجه المستعمر دون أن يدري الانجليز بالمضامين اللغوية الثورية الخفية داخل عازة فهو يقول
عازة في هواك، عازة نحن الجبال
وللبخوض صفاك عازة نحن النبال
الكنداكة مهيرة بت عبود
حفظ لها التاريخ أنها من أوئل النسوة السودانيات اللائي كتبن الشعر الرصين في مواجهة المستعمر وعندما أراد أبناء جلدتها مواجهة كتائب الجيش التركي المصري في ديار الشايقية ربطت ثوبها في وسطها وخرجت على مقربة من ميدان المعركة فأطلقت زغرودة وحمست الجيوش، وقالت (أكان فريتو ياجماعتنا أدونا الدرق وهاكم رحاطتنا). فصارت شعاراً وأهزوجة تتبادلها النسوة عندما تخرج الجيوش للقتال فيتضاعف فيهم الحماس ولكن عندما رأت إسماعيل باشا راكباً فرسه متجهاً عليهم لم تخف منه ووا جهته وسط مجموعة من جيوش شباب منطقتها وقالت للباشا (جنياتنا العزاز الليلة تتنتر ويا الباشا الغشيم قول لي جدادك كر) وقدمت الكثير من العمل الحماسي وقتذاك وهي ثائرة لم تتجاوز العقد الثاني من عمرها .
الفارسة رقية بت حبوبة
هى رقية بت إمام الشقيقة الصغرى للبطل عبد القادر إمام ود حبوبة الذي قتل عساكر الانجليز الذين استفزوه وكسروا الألواح في الخلوة التي كان يديرها فنصحه العديد من الاهالي بأن يفر من المنطقة حتى لايبطش به الانجليز فقال كلمته الشهيرة (قتلتهم هنا وسأثبت هنا) وكان بمقدوره ان ينفد بجلده فهز سيفه وقال (أنا أخوك يارقية) فزغردت ونظمت فيه قصيدة طويلة بعنوان (جبل الثبات) ولكن عندما أراد الانجليز قتله وإعدامه جاءوا به وسط السوق لتنفيذ الإعدام حتى يرهبوا البقية ويجعلونه عبرة لغيره لكن أخته رقية الشابة ذات الثلاثة وعشرين ربيعاً أطلقت زغرودة وهو في مكان الإعدام وجاءت تقود نسوة وكانت تنشد والنسوة يرددن من خلفها في مسيرة ثورية تلك الأغنية الرائعة التي مازالت تردد حتى يومنا هذا وهي (بتريد اللطام أسد الكزاز الزام – هزيت البلد من اليمن للشام – سيفك للفقر قلاع-) فصارت تنشد أمام الإنجليز حتى بكى كل الحاضرين عندما وصلت قولها (لوكان بالمراد واليمن محقوق ما كان انشنق ود أب كريق في السوق) وود أبو كريق تعني التمساح وهكذا كانت تلقب أخوها .
العطبراوي والطقطاقة
هو من مواليد 1919م في مدينة عطبرة، ويعتبر من أكثر الفنانين الثوار وتعرض للكثير من التنكيل والتعذيب من قبل المستعمر الانجليزي بسبب أن أغنياته كانت ترفع كشعارات في التظاهرات الثورية الجماهيرية مما أدى ذلك إلى أن ترسل له العديد من التحذيرات تجاه تلك الأغنيات التي الهبت الشارع إلا أن الحاكم الإنجليزي أمر بقبضه وسجنه في سجن بربر وذلك عندما أقام حفلاً جماهيرياً غنى فيه ولأول مره أغنية ياغريب يلا لي بلدك التي يقول في مطلعها ياغريب يلا لي بلدك – يلا لي بلدك سوق معاك ولدك – انتهت مددك وعلم السودان يكفي لي سندك.. ترجمت القصيدة للحاكم العام ونجت باشا وغضب غضباً شديداً، وذلك في عام 1945م ومما ضاعف غضب (الخواجة) هو أن الأغنية أصبحت في لسان كل شخص في الشارع العام وأضحت وقوداً يلهب التظاهرات إلا أن المتابعين قالوا إن أكثر ما أغضب الحاكم العام هو البيت الذي قال فيه العطبراوي (طالبوا الأقطاب يوفوا ما وعدوا ذكروا تشرشل يحترم وعدوا)، فهاج الحاكم في هذا البيت كثيراً إلا أن العطبراوي وهو ابن العشرين أعيد تارة أخرى للسجن في نفس العام 1945م عندما غنى (ياوطني العزيز يا أول وآخر بحلف بي حياتك وبي حبك بفاخر) فاعتبر الإنجليز أن هذه القصيدة تعتبر قصيدة تعبوية للحد البعيد وأفرج عنه بعد بضعة أشهر ولم يدخل السجن تارة أخرى إلا في عام 1950م بعد أن غنى (أنا لن أحيد) التي اعتبر الإنجليز أن العطبراوي يؤلب الشعب عليهم بعد وصف الذل والفقر الذي يعيشه الشعب وقال:
تمشى الملايين الحفاة العراة الجائعون مشردون
في السفح في دنيا المزابل والخرائب ينبشون
والمترفون الهائمون يقهقهون ويضحكون) إلى أن يفضح أعمال الإنجليز ومجونهم وهو يقول (والجاز ملتهب يضج حياله نهد وجيد
موائد خضراء تطفح بالنبيذ والورود
لهف من الشهوات يجتاز المعابر والسدود
هل يسمعون ؟
حينها تعرض للتعذيب والسجن مرة أخرى وفي هذه الفترة التقى بحواء الطقطاقة في سجون نهر النيل بعد أن قادت مظاهرة بالخرطوم وكانت تنشد أناشيد حماسية تسخر فيها من المستعمر مما أدى ذلك إلى أن يضربها أحد ضباط الانجليز بمؤخرة البندقيه في فمها حتى تكسرت أسنانها فجاءالضابط الأعلى، وقال لها سنعالجك ونتدبر أمرك، فقالت له سيعالجني طبيب سوداني بعد أن نطردكم ونخرجكم من أرضنا .
وردي ومحمد الأمين
الموسيقار الكبير محمد وردي أيضاً غنى ثائراً في منتصف ستينيات القرن الماضي في انتفاضة أكتوبر المجيدة عدداً من الأغنيات تفاعل معها الشارع الثائر كثيراً حتى أسميت إصطلاحاً بأدب (الأكتوبريات) فقدم (باسمك الأخضر يا أكتوبر الأرض تغني) و(أصبح الصبح) وقد قدم تلك الروائع وهو في الثلاثين من العمر تماماً في عمر ثوار شباب القيادة العامة إلا أن العملاق محمد الأمين كان في الخامس والعشرين عندما قدم أيقونته الرائعة (الملحمة) لهاشم صديق التي ألهبت الشارع كثيراً.
لما الليل الظالم طول
وفجر النور عن عينا اتحول
قلنا نعيد الماضى الاول
الى ان ترتفع حرارة الايقاع وتصل سدرة منتهى الروعة والاثارة ويلتهب الحماس ويقول (ازلنا موانع -كسرنا حواجز – وصفنا واحد – عامل وطالب – حتى يقول الرصاص لن يفنينا فتتحول القصيدة الى مرجل يغلي وتصدح أم بلينة السنوسي قائلة (وكان القرشي شهيدنا الاول ) وام بلينة نفسها كانت في عمر الزهور وقتها عليها رحمة الله. وهاشم صديق كاتب الملحمة وقتها كان طالباً في الثانوي العالي ويخرج في شوارع امدرمان ايام ثورة اكتوبر فينشد الملحمة ويرددها الثوار من خلفه. اما الشاعر والثائر والصحفي الراحل فضل الله محمد دفعته ثوريته الجامحة الى ان يكون في غياهب السجون فكتب من خلف القضبان اكتوبر 21 التي شكلت إضافة ثورية للشارع وقتها لم يرصد المتابعون أعمال غنائية ثورية كثيرة تدعم الخط الانتفاضي للثوار من كبار الفنانين ورواد الغناء الكبار فتسيد الشباب الموقف بصورة أكبر.
ما أشبه الليلة بالبارحة
اما الآن في ثورة 19 ديسمبر المجيدة ايضاً لم يرصد المتابعون اعمال غنائية بائنة لكبار الفنانين وروادهم الموجودين حاليا وذلك لاستحواذ الشباب على المشهد بصورة شبه كلية فبرز ايمن ماو بعدد من الأغاني الثورية التي حركت الشارع كثيراً فقدم (رصاصة حية) (سودان بدون كيزان) (قالوا جو ينقذونا- حتى أصبح عدد كبير من أعماله يشكل هتافات ثورية بصورة متواصلة بجانب أحمد أمين الذي قدم أعمالا لفتت انتباه عدد كبير من المتابعين ونالت اعجابهم فقدم (ياوالدة لوشفتي كيف ضربوا الترس) و(مدنية حرية سلام) و(دم الشهيد) حتى أصبحت تلك الألحان نغمات رنين لعدد كبير من الشباب الثائر. لتثبت الاحصائيات ان الشباب بقدر ماكانوا وقودا يشتعل لنيران الثورات حتى يضيئوا طريق الآخرين ايضا كانوا نغما وشجنا وحرفا وكلمة تعكس مدى عمق المد الشبابي في ميادين الثورة والحرية.
The post سيطرة شبابية على الأغاني الثورية appeared first on السودان اليوم.