السودان اليوم:
كان من المراسيل الراتبه عليّ فى المرحلة الإبتدائية أن أذهب فريق (قدّام) وهو شرق القرية حيث بيت جدي لإحضار اللبن بعد أن رحلنا فريق (ورا) . لم ينقطع الربط الوجداني وحتى كتابة هذه السطور يظلُ موقع بيت جدنا (حقار) ودُكان ود ابراهيم والمُثلث الذى شهد طُفولتنا من أمام دُكان عوض جُمعة وحتى شجرة (الرحّام) وحتى الغابة و (التَرَس) وسهلة غنم الراعي ما زالت تلك الأمكنه هى مكمنُ كل شوق وذكرى حبيبة الى نفسي لا يُمكن أن أصف راحتى عندما أدخل بيت الخال (بشير) هو موقع بيت أبيه وأجلس علي عنقريب أو بنبر أجول ببصري أري ما لا يراهُ الآخرين فأين كان النوم واللعب وشراب الشاهى وأين كانت البقرة و زريبة الحُمار وما ذا كان يقولُ لنا أحمد ود حمد النيل مُداعباً (أمسكُو النطهرو) و (أمّكِ) كلمة يُرددُها بصوته الرنّان يمدُ حرف (الميم) طويلاً و مع عُلُو صوتِه وحِدته تُحدثُ صديً .
أتذكُرُ الطُفولة التى كانت هناك كما لو أنها بلأمس القريب القاطوع وخُمّارة العجين وتُوريق الباب والمفاتيح الخشبية العتيقة . و (حقّار) شيخٌ كان لا يرضى لملابسة أن تُطرّح بالمكواة ويكتفى أن يُطبيقها و يضعُها تحت (لحافة) ، كنتُ عندما أحتسى الشاي مع الخال بشير وأولاده فى إجازاتى أظلُ غارقاً فى عبير الذكري ، لم أنسي (نطحة) البقرة التى (ورطنى) فيها المرحوم الدكتور عُمر عبد الله عندما نادانى أن آتيه فتناولتنى بقرونها ولن أنسي (العلقة) التى نالها بحبل البقرة ، فيكفى إن أجلس هُناك لأكتب كل شئ كما كتب الرُواه ولن تكون (العيكورة) أقل منزلة في نفسي عن منزلة (كرمكول) في نفس الطيب صالح .
كُنتُ أحضرُ عصراً حاملاً (بستلّة) اللبن ماشياً أتأرجحُ بها خابطاً على رُكبتى بالتناوب كما يفعلُ لاعبُ الكُرة لا أذكر أنهم كانوا يعطونني نقوداً فكان الأمر اليومي (أمش جيب اللبن) . أعبرُ عصراً والشارع المُتجة الى الجزارات ملئٌ بحمير اللبن ، مع أول لفة يميناً بمُحازاة بيت محمُود ود الطيب يتجهُ المسارُ شرقاً عبر بيت حاجة (القانون) ننطقها بتخفيف القاف مُتجاوزاً دُكان الترزي فضل ود الطيب الشهير ب (ريري) قيل أنه كان لاعب كُرة ماهرٌ فى شبابه ثم ديوان محمد أحمد ود العوض تفوحُ منه رائحة القهوة يرتشفها مع أنداده وقت الأصيل ثم (شدرة) أولاد العوض حيث يبتاعُ الناسُ تحت ظلها البطيخ والعنكوليب وبعض الحلويات محلية الصُنع و حاجة (حواء) إمرأةٌ طيبة كانت تأتينا من قرية عبد العزيز المُجاورة تبيعُنا الفُول المُدمّس و التسالي والتُرمُس وبليلة الكبكبي وهُنا أمامى خيار العُبُور أسفل الشجرة وقد إنفضّ سامر السوق وقت الأصيل . أو أن أعبر خلال حوش خالتي آمنة بت حقار فله بابان ويُمكن من خلالهُما تجاوز المُرور أسفل الشجرة .
وقت حليب الأبقار يكونُ قُبيل صلاة المغرب بعد ورود القطعان من السرحة مُتزامناً مع عودة الطيور الى فُرُوع أشجار النيم فتحدث شقشقة لا تكاد تسمع معها صوتاً آخراً سوي خوار الأبقار تُطمئن صغارُها قبل أن يُسمح لها بالرضاعة بعد الحلب الجزئي وترك ما يُشبعُها حسب عُمرالعِجل .
تُملاْ لى (البستلّة) من حبوبتنا بت المني بت المبارك فى الوقت الذي يكونُ فيه جدي قد غادر لصلاة المغرب بالجامع العتيق عليّ أن أغادر مُستبقاً حُلول الظلام وإن حَلّ أعطوني (بطارية) , الأحاجى و نسج الخيال هى ما كان يُشكل وجداننا وهواجسُنا وأحلامُنا وبالطبع منها الصحيح و منها الباطل فكانت التربية حينُها بها الكثيرُ مما يُنافى الفطرة السليمة فمثلاً كان عيباً أن يبكى الطفل إذا تألم لانه (راجل) والرجل لا يبكى وكان عيباً أن يخشى الظلام لأنه ولد والولد يجب أن لا يخاف وهكذا .
كان طريق العودة فى بداياته سلساً وما كان ناس فريق قدام يسُعون الكلاب إلا من يسكُنُون بالأطرافه أولاد ود ابوعلامة وأولاد ود الحفّار. لذا كانت رحلة العودة سهلة وأضواء (الرتاين) وحركة الناس على قلتها تُوحى بأن هُناك حركة وحياة فالعًبُور بشارع بيت آمنه بت أحمد إمرأةٌ قصيرة يُقالُ لها (الصّيدة) ودُكان محمُود ود صالح وحسن الشريف و ود الطيب كان ولكن ما أن نأتى لشجرة أولاد العوض وقد هدأ المكان وتواترت على (المخيخ) قصصُ الجن والعفاريت عن الشجرة (المسكُونة) إلا ونبدأ معها بالهمّهمَات الراجفة فآية الكُرسي يُمكن أن (تشربكها) بالمعوذتين وكأنّك تعبرُ مُثلث (برمودا) من سُوء ما تتخيل فأسّهلُ ما كنا نُردده هرولةً هو (بسّم الله) نمُدُ حرف السين بصوتٍ راجف وصدرٍ مُتهدج حتى نعبُرها كُل هذه الخيالات والرُعب فى مسافة لا تتجاوز العشرين متراً ثم نتنفسُ الصُعداء عندما تري دُكان فضل الله (ريري) تلتفتُ ورائك خائفاً تترقب وبحق فقد كانت الشجرة كثيفة ومع ظُلمة الدُجى يزدادُ الأمرُ رُعباً مع الخيالُ تزيدها ما اختزنتهُ الذاكرة فى عُقُولنا الصغيرة .
الكلاب وأظنها لظلام القرية الدامس كان يستفزُها ضوء الكشافات فتتداعى على كُل من يحملُ بطارية بالنباح ولو كان فى (فريق العرب) أو (فريق العلقماب) فتنبح مُتضامنة فى أسوأ تجمع إرهابي ضد بنى البشر . ناس ود أبروب كان لهم كلبٌ شرسٌ يقطعُ الطريق وعبد الكريم ود زروق كان له كلبان وأخوه عبدُ الله كلن له ثالثٌ باسطٌ ذراعيه بوصيد الحوش على بُعد خطوات من منزلنا .
وأخيراً
فرغم هذا الرُعب اليومى لم نكُن نعرف عُطلة نهاية أسبوع ولا حُقُوق نهاية خدمة حتى تلقفتنا المرحلة المتوسطة و باع جدنا أبقارة وأصبحنا نتدبر أمرنا مع الاخرين عبر أغنامٍ إشتريناها شاركتنا الحُوش والكِسرة الناشفة وقضم حبال العناقريب ، تظلُ تلك الفترة هى طعمُ الحياة التى كانت فوصولي (ببستلّة) البن قبل أن ينام إخوانى الصغار الأستاذ أنس والدكتور عفيف كانت إنتصاراً فى حد ذاتها والنُهُوض الباكر للجزارة وقُفة المُلاح قُبيل طابور المدرسة كان إنتصار ومسؤولية باكرة و نواةٌ (للشطارة) أدخلتنا (حنتُوب) والجامعة و جعلتنا لا نَملُ الحديثُ عن أهلنا وقريتنا نحدثُ عنهُما بكل فخرٍ وكبرياء كل من عرفنا في دُرُوب الحياة.
The post شجرة ود العوض.. بقلم العيكورة appeared first on السودان اليوم.