السودان اليوم:
• ونحن (ولاد) السكة الحديد، في الكثير من (المحطات) الخلوية التى تنقل بينها الوالد لم يكن لنا منفذا للثقافة والعلوم والترويح غير (اذاعة ام درمان) ، كنا نترقب (اثيرها) ترقب المشتاق المستهام ، نتلصص لذلك (استراقا) ، وقد نحرم من حق (الاستناط) لها ، اجلالا لبرامج كانت تقدمها اذاعة ام درمان ، وكان (اهالينا) يعتبرونها كبيرة علينا – ولا يجب علينا ان نستمع لها ، احتراما وتقديرا للإذاعة الام ، غير اننا كنا نفعل ذلك (توسلا) حينا و (تلصصا) في احيان اخر من وراء شباك او ضلفة باب.
• واحيانا كثيرة كنا نكرم ببرنامج او اغنية (تحفيزا) لنا على انجاز عمل ما – شريطة ان نفعل ذلك دون كلام او حراك ، فقد كانت (انفاسنا) محسوبة علينا ونحن في حضرة اذاعة ام درمان.
• كان (الراديو) تتبادل (منافعه) بين افراد الاسرة – الاب يكون حريصا على (نشرة الاخبار) ، خاصة نشرة ثلاثة ، وتكون (الحبوبة) حريصة على (نشرة الوفيات) ، حتى اذا سمعتها لملمت اشيائها في (قفتها) ومضت وهي حزينة، حتى لو لم تكن تعرف احد من الذين تمت اذاعة خبر وفاتهم في (الراديو) – الاحساس بالوجعة كان عاليا.
• الاحساس بالغير لم يكن يحتاج الى قرابة دم او معرفة ، او صلة او حتى (جغرافيا).
• الناس كانوا شركاء في (الاحزان) وشركاء في (الافراح)…يحزنوا لحزنهم ، ويفرحوا لفرحهم.
• كبار الاخوة والأخوات في البيت كانوا يحرصون على برامج المنوعات ، والمسلسلات الاذاعية، وكنا نحرص نحن على برامج (الرياضة) ، ومباريات الهلال والمنتخب الوطني الى جانب اغنيات (الكاشف). عندما كنت صغيرا كنت اظن ان ابراهيم الكاشف يغني لي وحدي ، استئثارا به – وان اغنياته تلك انا احق الناس بها – كان ذلك مني (اعجابا) بالكاشف واغنياته الخالدات.
• اغنية (ظلموني الناس) كتبتها سرا في كراسة (الجغرافيا) – فيها من (التضاريس) ما يغريك لذلك.
• لم يكن امامنا ونحن في محطات (خلوية) قاحلة – تسمع فيها (رنين) القرش والريال والشلن اذا وقع ولو كنت على بعد عشرين كيلو – لم يكن امامنا وقتها غير المنافسة على (الراديو) والذي كنا نحيط به جلوسا كأننا في (مدرسة) او (خلوة).
• تلك الليالي الطوال كنا نكافح وحدتها ووحشيتها بالاستماع الى اذاعة (هنا ام درمان) – لنا في ذلك ذكريات جميلة.
• نستطعم رمضان بصورة اكبر بالاذاعة (الام) ، ونقضي نهاره ونحن في حصار الموجة الطويلة لاذاعة ام درمان.
• ان انسى لا انسى كيف كان (اخوتنا) الكبار من الذكور والإناث يحرصون على قضاء العصاري والاماسي في كنف اذاعة ام درمان.
• لا انسي كيف كانوا يبخلون علينا بحجارة البطارية التى يستأثرون بها لانفسهم حينما يضعونها تحت (الزير) ،فيحرموننا من برنامج (عالم الرياضة) حتى تكون تلك (الحجارة) في كامل قوتها عند حلول المسلسل اليومي.
• كنت ألحظ مكانة الهادي الصديق وحب الناس له ، من خلال (العضعضة) التى تحدث لحجارة البطارية ،و (العصر والضغط) الذي يتم عليها ، حتى تترك (الاسنان) بصمتها على (حجر البطارية)، من اجل الاستماع للهادي الصديق في مسلسله الاذاعي اليومي والذي كانت الاذاعة السودانية تحرص على بثه يوميا ، خاصة في شهر رمضان.
• صوت الهادي الصديق في تلك المسلسلات كان يمثل عندنا صوت (البطل) – و كان عندنا هو (الحلم) المنشود ، وهو يلّون صوته كما يشاء بين الفرح والحزن ومنعرجاتهما.
• صوت من ثلاثة ضلف.
• يتنقل بك صوت الهادي الصديق (الاذاعي) بين هذه المركبات فينقلك من مشاعر الى مشاعر وانت تشاركه الشعور.
• تقرأ الحالة بما في ذلك (اللوكيشن) من خلال صوت الهادي الصديق (المتنوع) والذي يملك قدرة فائقة على السيطرة عليه والعلو به والنزول بدون (قومة نفس).
• الهادي الصديق الممثل (الاذاعي) كان يملك صوت ذو ثلاثة ابعاد ، قادر على ان يقدم لك (الصورة) من خلال اثير اذاعة ام درمان ، وانت قاعد في (عنقريبك) واضع رجل على رجل.
• صوت من ثلاثة ضلف.
• موجة (هنا ام درمان) كانت تقدم لنا صورة الهادي الصديق من خلال صوته (الغني) والذي يلعب به كما يلعب العازف الماهر باوتار آلته الوترية.
• الهادي الصديق لم يكن مجرد ممثل – الهادي الصديق كان (عازفا)، يعزف بحنجرته ، فيمنحك (الصوت) الذي يرسم لك (المشهد) كما يتمنى المخرج ، واعلي مما يتخيله او يتوقعه.
• صوته كان (فرقة)…فيه كل الطبقات والالوان.
• صوته عبارة عن (آلة تصوير) ، تقدم لك الحدث والمشهد بكل حذافيره بما في ذلك (تفاصيل) المكان بدومته وعصافيره وقهوته وشايه وصوت كبابيه وكلبه الذي يبسط ذراعيه بالوصيد.
• هذا التقدير (الاذاعي) للهادي الصديق لا يقدح في قدرات الهادي الصديق الممثل (التلفزيوني والمسرحي) ، فقد قدم الهادي الصديق من خلال مسلسل (دكين) ، شخصية (دكين) كما هي بكل صراعاتها – حتى اننا وقتها تفقدنا (رقابنا) هلعا لما كان يفعله (دكين) في المسلسل التلفزيوني الشهير.
• لا اعتقد ان محمد نعيم سعد مخرج مسلسل (دكين) لو اتي بتلابيب (دكين) نفسه واحضره شخصيا لما استطاع ان يقدم (شخصيته) بالصورة (المهولة) التى قدمها بها الهادي الصديق في مسلسل (دكين) – انتاج 1997م والذي انتشر في الدول الافريقية بمثلما انتشرت اغنيات محمد وردي وسيد خليفة في دور الجوار.
• حقق الهادي الصديق (نجومية) كبيرة في فترة الثمانينات والتسعينات ، لا اعتقد ان هناك ممثل سوداني وصل للنجومية التى حققها الهادي الصديق – مع ذلك فان الرجل عاش بنجوميته تلك متواضعا وظل بعيدا عن الاضواء حتى انك من النادر ان تجد له تسجيلات (حوارية) في الاذاعة او التلفزيون او الصحف ، زهدا في الاضواء ، رغم الذي وصل له من (النجومية)…وكان الهادي الصديق بعد كل تلك (النجومية) والشهرة (متواضعا) ، و (منزويا) عن الاضواء ، ربما جاء ذلك من طبيعته (الصوفية) التى مكنته من اتقان الادوار التى يقوم بها وهو يتقمص (الشخصية) التى يجسدها بصورة مذهلة – بلغ ان اغمي عليه في احد الادوار المسرحية التى جسدها على خشبة المسرح ، لأن الشخصية التى جسدها كان يستلزم ان يغمي عليها حسب الدور – الهادي الصديق اغمي عليه بصورة حقيقية ، واعتقد طاقم المسرحية ومخرجها ان الهادي الصديق اغمي عليه حسب ما هو مرسوم في تجسيد الشخصية وهو كان بين الحياة والموت بسبب تقمصه للشخصية ، بعد ان اغمي عليه حقا.
• نشأ الهادي الصديق في بيئة صعبة وعاش طفولة قاسية ، وكان والده يرفض دخوله للمجال الفني ويعامله بقسوة خوفا عليه من الانجراف في الوسط الفني والذوبان فيه ، مع ذلك شق الهادي الصديق طريقه في الفن وصنع لاسمه (نجومية) كبيرة ، اكتسبها بصورة (تلقائية) ، ولم يمنعه ذلك من التفوق الاكاديمي لينال درجة الدكتوراه ويصبح محاضرا في جامعة الجزيرة.
• في الاذاعة شكّل الهادي الصديق ثنائية جميلة مع تحية زروق ، كان وجودهما معا في أية مسلسل يعني نجاحه الكبير.
• الهادي الصديق – تحية زروق – في :
• هذا شعار النجاح لكل مسلسل اذاعي تبثه اذاعة ام درمان…الى جانب فائزة عمسيب التى تعتبر (حجز زاوية) الدراما السودانية بمختلف ضروبها.
• كتب عن الهادي الصديق صديقه مولانا محمد الحافظ محمود القانوني الشهير : ( أربعة أعوام حسوما امضيناها بمدرسة حى العرب الابتدائية (ما بعد الكتاب) كانت أيام مودة (كاسحة) لم تخالطها نذوات الشر ابدا. ..كنا كما الشخص وظله كنا فى حصص الرياضة نركض سويا ونعتلي “حصانها ” معا كما كنا فى الامتحانات كفرسى رهان أكون الأول أحيانا وتكون انت وإن كنت الثانى جئت على أثرى الثالث وما غبنا عن “الندوة الأدبية “ابدا فى ساحة مدرسة حى العرب. ..ما اعتليت المنصة مخاطبا جموع الطلاب إلا واعقبتنى متحدثا وكنا انا وانت دائما ما نمثل ادوارا محورية فى مسرح المدرسة وكنا انت وانا ننتمي لاسرتين مستورتى الحال، نقتسم فطورينا بمثلما نقتسم زجاجة الببسى أحيانا وإن فاتت أحدنا حصة درس لمرض أو غيره، فإذا بالأمر كأن لم يكن تزورنى عصرا وازورك نستعيد الدرس لا تفلت منا عبارة أو حتى مفارقة أثناء إلقاء الدرس أو تعليق ساخر من أستاذ المادة أو شقاوة زميل أو إنفاذ “مقلب ما “تواثقنا عليه ثم أتذكر -وبصرك اليوم حديد – بعد أن ألقيت عن عاتقك ثقل الجسد. ..كيف انا وانت احطنا بأستاذنا برعى أحمد البشير فى تحد غرير لا ستخلاص الكرة من قدمه “الذهبية ” وكنا نتحمس لفرقة الهلال وكنا نعد ذلك لو نجح بطولة هلالية مذهلة ولكن الأستاذ المعلم أخفى الكرة فلم نعثر لها على إثر إلا وهى تدور داخل مرمى الفريق الآخر الذى يشايعه برعي المعجزة. …وأتذكر يوم خالفنا أمر الناظر فى أكتوبر الأخضر فتسلقنا حائط المدرسة الغربى لنلحق بموكب العمال ومدرسة الأحفاد الثانوية وماهى إلا دقائق معدودة ونحن في طليعة الموكب وكيف وأنك الابسط جسما سمحت لى باعتلاء كتفيك صادحا بشعارات الثورة.وكنا عندها غافلين بعاقبة مخالفة أمر الناظر حيث اتخذ قراره على عجل بفصلنا وما انقذنا من ذلك القرار إلا سقوط النظام فى ذلك اليوم فعدنا يملؤنا فخر غرير وقوبلنا مقابلة الأبطال).
• كان يمكن الاستفادة من الهادي الصديق بصورة اكبر ، لو كان السودان يمتلك الامكانيات التى تمكّنه من الاستفادة من موهبة وإمكانيات الهادي الصديق الكبيرة – كان يمكن ان يكون الهادي الصديق ممثل (عالمي) ، لا يقل عن عمر الشريف في شيء ، بل يتوفق عليه في القدرة الفائقة على التجسيد (الصوتي) للشخصيات التى يجسدها.
• لو كان في السودان صناعة للسينما لوجد الهادي الصديق حقه وتقديره ولنافس (أميتاب باتشان) في العالمية والانتشار.
• مواهب كثيرة نحن لا نعرف قدرها ، إلّا بعد رحيلها …وشخصيات عديدة كان يمكن ان تكون في مصاف العالمية لو وجدت الرعاية الكافية وكانت في دولة تعرف ان تقدر مواهبها.
• اللهم ارحم الهادي الصديق واسكنه فسيح جناتك مع الشهداء والصدقين.
• ولا حول ولا قوة إلّا بالله.
• …….
• ترس اخير /
• لاحقا ان تيسر لنا ذلك نكتب ان شاءالله احقاقا عن الشيخ محمد احمد حسن ومحجوب سراج وعمر حلاق – رحمة الله عليهم جميعا.
The post الهادي الصديق ..كنا بنعّض ليه (حجارة البطارية)!!.. بقلم محمد عبدالماجد appeared first on السودان اليوم.