اخبار السودانمقالات

حكاية الطياني القرآني

متابعات - الراي السوداني

قبل سنوات شيّد لنا معماري شاب حديث التخرج ستديو للصوتيات بقناة أمدرمان الفضائية قبل انطلاقها، وكان فيه حيوية ونشاط واهتمام بالثقافة والأدب.

وقد دخل عليّ في إحدى الأيام بمكتبي قرأ على مسامعي قصة قصيرة وهي جزء من مجموعة ينوي اصدارها فسألني تقييمي للقصة بدون مجاملة السودانيين وأطلق بعدها

ضحكة ذات مغزى

بعد أن انتهى من القراءة قلت له بصراحة إن القصة مثقلة بالمفردات والحشو والترصيع اللغوي، مما أخفى قوة الفكرة فيها. وتداولنا في أشياء كثيرة عن أدب القصة والرواية ورؤيتي حولها،

ونصحته بمراجعة القصص القرآني ففيه أحكام في اللغة وابراز للمعنى وانتقال فني من حدث إلى حدث دون الاغراق في التفاصيل، ودون أن يتجاوز النص ذكاء القارئ.

ونصحته بأن يبدأ بسورة الكهف حيث تطل في ثناياها الكريمة قصة أهل الكهف والرقيم وقصة صاحب الجنتين وقصة سيدنا موسى والخضر وقصة ذو القرنين.

واضفت له نصيحة أخرى بأن يقرأ الأحاديث التي رواها الفاروق عن المصطفى صلى الله عليه وسلم فابن الخطاب كان مشهورا بحبه للأدب وكان عارفا بخبايا الشعر والشعراء وكان له شغف بشعر زهير بن ابي سلمى، .

وأكد هذا ابن عباس إذ قال: خرجت مع عمر بن الخطاب في أول غزوة غزاها فقال لي: أنشدني لشاعر الشعراء» قلت: ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال: ابن أبي سلِمى» قلت: وبم صار كذلك؟ قال: لا يتبع حوشي الكلام ولا يعاظل في المنطق ولا يقول إلا ما يعرف ولا يمتدح أحداً إلا بما فيه.

وعندما قابل رضي الله عنه أعاين من قبيلة زهير قال لهم : إن أشعر العرب صاحب ومن ومن ومن وقرأ عليهم أبيات المعلقة التي جملها بنصائح ناصعات بقيت في جيد الفكر الانساني الرصين حتى قبل ظهور الاسلام:

‎وَمَنْ لَمْ يُصَـانِعْ فِي أُمُـورٍ كَثِيـرَةٍ

‎يُضَـرَّسْ بِأَنْيَـابٍ وَيُوْطَأ بِمَنْسِـمِ

‎وَمَنْ يَجْعَلِ المَعْروفَ مِنْ دُونِ عِرْضِهِ

‎يَفِـرْهُ وَمَنْ لا يَتَّقِ الشَّتْـمَ يُشْتَـمِ

‎وَمَنْ يَكُ ذَا فَضْـلٍ فَيَبْخَلْ بِفَضْلِـهِ

‎عَلَى قَوْمِهِ يُسْتَغْـنَ عَنْـهُ وَيُذْمَـمِ

‎وَمَنْ يُوْفِ لا يُذْمَمْ وَمَنْ يُهْدَ قَلْبُـهُ

‎إِلَـى مُطْمَئِـنِّ البِرِّ لا يَتَجَمْجَـمِ

‎وَمَنْ هَابَ أَسْـبَابَ المَنَايَا يَنَلْنَـهُ

‎وَإِنْ يَرْقَ أَسْـبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّـمِ

‎وَمَنْ يَجْعَلِ المَعْرُوفَ فِي غَيْرِ أَهْلِـهِ

‎يَكُـنْ حَمْـدُهُ ذَماً عَلَيْهِ وَيَنْـدَمِ

‎وَمَنْ يَعْصِ أَطْـرَافَ الزُّجَاجِ فَإِنَّـهُ

‎يُطِيـعُ العَوَالِي رُكِّبَتْ كُلَّ لَهْـذَمِ

‎وَمَنْ لَمْ يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلاحِـهِ

‎يُهَـدَّمْ وَمَنْ لا يَظْلِمْ النَّاسَ يُظْلَـمِ

‎وَمَنْ يَغْتَرِبْ يَحْسَبْ عَدُواً صَدِيقَـهُ

‎وَمَنْ لَم يُكَـرِّمْ نَفْسَـهُ لَم يُكَـرَّمِ

بل أن سيدنا عمر قال في حقه كلمة مشهودة: “لو أدركتُ زهيراً لولّيته القضاء!” مشيرا إلى أبياته:

فَإِنَّ الْحَقَّ مِقْطَعَهُ ثَلَاثٌ .. يَمِينٌ أَوْ نَفَارٌ أَوْ جِلَاءُ

فَذَلِكُمُ مَقاطِعُ كُلِّ حَقٍّ .. ثَلاثٌ كُلُّهُنَّ لَكُم شِفاءُ

معنى الأبيات التي استشهد بها الخليفة الثاني أنّ زهيراً استوفى في قوله جميع الطرق الممكنة لإظهار الحق، فهو إما يكون باليمين، أي “القسم”،

وإما أن يكون بالمنافرة، فيرفع المتخاصمون أمرهم إلى من يحكم بينهم، وإما أن يكون بالجلاء، وهو انكشاف الأمر بالحجّة والدليل.

من كان يصدق أن مثل هذه المعاني الكبار تصدر عن شاعر جاهلي وقد صدق المصطفى صلى الله عليه وسلم حينما قال: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”

وقد ظهرت موهبة ابن الخطاب بعد ان استكمل ثقافته باللغة والشعر وأقوال العرب والقرآن في سردياته وقوالبه الموحية، مما رواه عن المصطفى صلى الله علبه وسلم.

ومن أحب ما قرأت في سياق السرديات الذكية والبالغة التأثير حديثه الأشهر عن مثول جبريل عليه السلام أمام المصطفى صلى الله عليه وسلم والذي اختصر فيه كل قيم الاسلام في عدة جمل ومفردات.

فانظر عزيزي القارئ للمسرح الذي رسمه سيدنا عمر بهذه القصة القدسية والتي فاقت كل القوالب الفنية القديمة والمعاصرة فالكلمات على قدر المعاني، بلا ترف لفظي ولا تقعر ولا اغراق

” بينما نحن جلوس عند رسول الله ﷺ ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي ﷺ فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه،

وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله ﷺ: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه! قال: فأخبرني عن الإيمان.

قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: فأخبرني عن الساعة.

قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، قال: فأخبرني عن أماراتها. قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، ثم انطلق فلبثت مليا، ثم قال: يا عمر، أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم”

غادرني الشاب شاكراً بعد أن سجل نصائحي وبعض الملاحظات في دفتره ومضى إلى حال سبيله وأكمل عمله في الاستديو ولم أقابله إلا بعد عامين، حين ذكرني بالحادثة والقصة وظننت أنه سيناولني مجموعته القصصية.

وكنت ارجو في نفسي أنه تدبر ما قلت قديماً، لكنه فاجئني قائلاً: أنا يا أستاذ لم أتدبر قصص سورة الكهف، بل حفظتها وقد حرضني جمال السورة أن أعكف على القرآن فحفظته، وحفظت كل أقوال سيدنا عمر وسيرته وكل ما قاله فيه الشعراء والكتاب إلى يومنا هذا،

وأنا الآن والحمدلله إمام مسجد الحارة وصاحب حلقة في التحفيظ والتجويد والتفسير، يعني باختصار طياني وقرآني، وطياني هذه إشارة لتخصصه في المعمار. ومن ملاحظاته اللطيفة قبل أن يودعني: “والله يا أستاذ إن هذا الحديث الحكاية والخُطب والأخريات يؤهلن الفاروق للمنافسة في جائزة نوبل للآداب”

عزيزي القارئ إن الاشتغال بمهنة الصحافة والاعلام يمنح صاحبه موهبة الاستدعاء للشخوص والأحداث والمواقف فيطلون عليك دون استئذان حتى وإن مضت سنوات وسنوات.

تذكرت حكاية هذا الشاب بحسرة حيث تملكني احساس عميق بأن مسرح هذا الحدث الودود لن يكون موجوداً أو شاخصاً في عاصمتنا المنكوبة، ففي ظني أن المعماري الشاب صار الآن نازح في مكانٍ مجهول، وتبعه مجلس الحفظ والتجويد والتفسير، ونالت الدانة العمياء حرم المسجد العتيق.

حاشية:

عزيزي القارئ يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: “تهادوا تحابوا” وحديث سيدنا عمر عن جبريل عليه السلام هديتنا لكم هذا المساء، فالرجاء أن تحفظه أنت وأسرتك الكريمة وألا تنسونا من صالح الدعاء.

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى