العميد الركن طبيب طارق الهادي كجاب في حوار مثير: هكذا اتوقع نهاية الحرب استهدفني القناصة ونجوت من الموت مرتين فى هذا المكان ..
متابعات-الراي السوداني-أجرت صحيفة الكرامة حوارًا مع العميد الركن طبيب طارق الهادي، الذي قصّ تجربته ومعاناة أُسرته مع الحرب ضدالميليشيا المتمردة:
حوار- محمد جمال قندول
كيف علمت بنبأ اندلاع الحرب؟
صادف اليوم عطلة السبت الأسبوعية، وتناولت شاي الصباح مع أُسرتي الصغيرة في “شمبات” عندما رنّ الهاتف حوالي الساعة التاسعة ليظهر على الشاشة الصديق الموسوعي “عم وداعة” الذي تناولت معه وجبة الغداء عصر الجمعة في ضيافة أُسرة الخليفة عبد المجيد جوار مستشفى الأطباء حيث يسكن جوارهم، وهو خزانة خبرات عملية وإدارية وسياسية ووطنية تتعلم منه في كل جلسة الكثير من الدروس أولها بُعد النظر وتناول هموم البلد والناس، وتلمس المخارج للوطن من المأزق السياسي الذي دخل فيه ويديره الغرب بالكامل، وافترقنا بعد صلاة العشاء فصبحت عليه بالخير وبادرني بالسؤال “الحاصل شنو”؟
“قلت ليه في شنو”؟
قال سامعين أصوات “ذخيرة كتيرة” على طول شارع المطار من المدينة الرياضية إلى المركز الطبي الحديث، وحركة عربات مسلحة كثيرة للدعم السريع.. قلت له: (نحنا ما على جهتنا شي، لكن بكون شي عارض خليني أسأل وأرجع ليك).
اتصلت ببعض الزملاء وأكدوا لي حدوث اشتباك بين قوات الدعم السريع وقوة من الجيش في القيادة العامة وحول المدينة الرياضية، ولكن كانت لدي قناعة داخلية أنّ الأمر لن يطول وسيحسم سلمًا، ولكنّ الحقيقة كانت أنّ الحرب قد بدأت فعلًا.
أين كنت حينها؟
نعم كانت هناك إشارة رفع الاستعداد تحوطًا لأحداث شغب قد تحدث منذ أكثر من شهر من الحرب وعلى ضوئها وزعت جداول الاستعداد والمناوبات ولم تكن عليّ مناوبة حينها وكنت في البيت.
ماذا كان شعورك في تلك اللحظة؟
لم أكن أتصور مطلقًا أنّ “حميدتي” قد يتمرد فعلًا وتوقعت أنّ ينتهي الامر سريعًا ربما في نفس اليوم بأمر “حميدتي” لقواته بالتوقف، بل ومحاسبة أفراده الذين أطلقوا النار، فهو أكثر من يعرف الجيش وإمكانياته وأنّه لا قبل له به، ولكن ظهر جليًا أنّ المستعمر الغربي غرّر به، وأنّ في إمكانه استلام العاصمة في ساعات، وبالتالي كل البلد في يومين، وهذا ما قاله في قناة “الحدث” حتى بدا لهم من الله ومن جند الله ما لم يكونوا يحتسبون.
الحرب طالت؟
نعم طالت بسبب أن “حميدتي” والمتمردين وداعميهم لم يتحركوا أصالةً عن أنفسهم ولا عن قناعة ووطنية حقيقية للإصلاح وإلّا لتوقفوا فورًا ولم ينقلوا الحرب ضد المواطن، ولكن هم كانوا ينفذون مشروع استعماري غربي وكان “حميدتي” قد صرّح قائلًا : (مدورانا السفارات وكراعنا في رقبتنا)، وجعفر حسن (سفارة سفارة)، ولذلك قرار إيقاف الحرب ليس في يدهم بل بيد المستعمر الغربي.
كيف مضى اليوم الأول من الحرب؟
كان بالأساس في التواصل مع قيادتي لتلقي التعليمات الأخيرة ومع الزملاء ومتابعة القنوات الفضائية والوسائط لمعرفة أيّ تفاصيل إضافية.
وبقية الأيام؟
في العمل الفني بالسلاح الطبي ومتابعة سير العمليات في بقية المواقع العسكرية داخل وخارج الخرطوم.. زال كل أثرٍ لصدمة الحرب بعد مرور الأسبوع الأول تقريبًا.
وبعد عام من الحرب؟
تطوير وابتكار، خطط ووسائل جديدة للتعامل مع العدو، ونتائج الحرب ناتجة عن اكتساب معرفة وخبرات جديدة غير مسبوقة.
يوميات الحرب في السلاح الطبي؟
كان القصف المدفعي بمختلف أشكاله (هاونات، مسيرات، هاوزرات وراجمات) بمتوسط 100 إلى 150 دانة فى اليوم على منطقة المهندسين والسلاح الطبي، بل لا يكاد مبنى في السلاح الطبي إلّا وأُصيب عدة مراتٍ ومثلها على أحياء أم درمان القديمة والفتيحاب، وكان مطلوبًا أن تستمر عمليات إسعاف الجرحى، وإصابات الطوارئ، وغرف العمليات، والعناية المكثفة، والغسيل الكلوي، والمكاتب و”الميزات”، وزادت المشقة بعد خروج محطة المقرن للمياه والكهرباء بعد مرور شهرين تقريبًا، وطوال الأشهر التالية حتى بعد شهرين من فتح الطريق للوادي.
لك أن تتخيل كيفية التعامل مع عشرات الجرحى والإخلاء من أم درمان والشجرة والمدرعات في غياب المياه والكهرباء والظلام الدامس وعدم التهوية في مكاتب وغرف و”برندات” تكتظُ بالجرحى والمرافقين وأطقم العمل وروائح الدماء والصديد والحمامات التي يصعب غسلها لقلة الماء وأعداد المستخدمين التي تضاعفت عشرات المرات، وشح الطعام بعد مضي ستة أشهر ونفاد المخزون الاحتياطي كان تحديًا آخرًا تطلّب تهريب الطعام خلال خطوط العدو والإسقاط وغيرها.. سأُفصل في تسجيل فالكتابة لن تستوعب التفاصيل.
مأساة عايشتها أيام الحرب؟
المآسي كثيرة لكن أمرّها علي كانت مأساة أهلي في توتي، حيث هي المنطقة الوحيدة التي كانت ومازالت محاصرة تمامًا بلا كهرباء ولا ماء ولا اتصال وهم على مرمى حجرٍ مني ويتصلون عليّ لإنقاذهم وأنا على علم بتفاصيل استحالة ذلك ميدانيًا ولا أستطيع أن أخبر منها بشيء، ولك أن تتخيل خيبة أملهم في ابنهم، ومثلهم أهلنا في شمبات وبري والجزيرة وغيرها، فالجيش مسؤول ويحارب في كل أصقاع السودان، ونحن نقاتل في الجيش في موقع حيث يُقدر الجيش المكان والزمان، هذا هو القسم، نحن في خدمة الشعب السوداني كله مع شح مهول في الأفراد والمعدات والأسلحة.
الموت.. هل اقترب منك في لحظة ما؟
نعم.. استهدفني القناص من ناحية المقرن وعمارة “زين” ومن ناحية أم درمان داخلية علي عبد الفتاح جوار الدايات عدة مراتٍ، بل وأرسل المتمردون طبيبًا عميلًا متعاونا بحثًا عن موقع إقامتي ومنامي حتى وصلني، ولذلك كنت لا أبقى في موقع واحد أكثر من ساعة متجولًا بين الأقسام، ولا أنامُ في مكانٍ واحدٍ لخمسة أيامٍ متتالية، وصادفني القصف وأنا متحرك في حوش السلاح الطبي مرتين، مرةً جنوب مستشفى الطوارئ ومرةً شمالها، وسلمنا الله وأُصيب زملاء منهم من استُشهد.
ما هي التدابير الاحترازية التي أقدمت عليها؟ وأين كانت أُسرتك؟
بقيت أُسرتي في البيت الشهر الأول، ولما أتى من يسأل عنهم في الحي أخرجتهم لبيت ابن عمتي في “أبو حليمة” لحوالي شهر، ولما كثر القصف عليهم انتقلوا لبيت صديق كريم لأخي الأصغر في “الحاج يوسف” وبقوا هناك (الوالدين، وأولادي، وإخوتي بأولادهم) لستة أشهر حتى أُصيبت الوالدة بجلطةٍ دماغية وشللٍ نصفي، وذهبوا بها لمستشفيات شرق النيل و”أم ضوًابان” و”ود حسونة” ولم يجدوا أي نوع من الخدمة، فتحركوا لشندي فلم يجدوا عنايةً مكثفة، فتحركوا بها لعطبرة وبقوا هناك حتى لحقت بهم بعد فتح الطريق بين المهندسين ووادي سيدنا. وسبحان الله، كان كلّ إخوتي وأصهاري عاطلين عن العمل ولم يحملوا معهم عندما خرجوا من بيتنا في شمبات عصرًا إلّا ما خفّ، فكانت العائل الوحيد لكل هذه الأُسر في كفالة ماهية الجيش “الشوينة” ربنا طرح فيها البركة.
أسوأ اللحظات في أيام الحرب؟
ظلت الخدمات الطبية تعمل بكفاءة وتتعامل مع جميع حالات الإصابات حتى شهر يناير 2024، حيث شكّل شُح الأدوية ومعينات الجراحة والطعام في انخفاض مستوى الخدمة الطبية من الدرجة القياسية لدرجات معقولة تحافظ على الحياة قدر المستطاع.
فوائد الحرب؟
الحرب التي فرضت علينا علمتنا الكثير على المستوى المهني، والاجتماعي، والأخلاقي، والسياسي، والعسكري والثقافي، ما يحتاج وقتًا لتنقيحه وصياغة خطط منه، ولكن على سبيل المثال لا الحصر:
– توحد الشعب خلف قواته المسلحة والمعرفة الحقيقية بأنها الحارس الأمين المؤتمن على بقاء الدولة والأمة.
– عدم رهن خياراتنا السياسية لأي قوّى خارجية.
– القيمة الحقيقية لوجود وطن تنتسب إليه وقيمة بلدنا في نظر الجميع ككنوز يجب الاستحواذ عليها بالقوة أو التحايل، وعلينا أن ندافع عنها وعن بقائنا في الكون بالنفس وبكل غالي ونفيس.
– ظهور معدننا الأصيل والمليء بالقيم والأخلاق المستمدة من ديننا وتاريخنا.
– العودة الكاملة والصادقة لله تعالى بكلياتنا والتوبة من ذنوبنا وأحقادنا وحسدنا لبعضنا.
– فضح العملاء والخونة والجواسيس والذي يجب أن يعاقبوا بالإعدام.
– التعامل مع أي تحذير بجدية كاملة.
– عمل خطط لأسوأ الاحتمالات ووضع الاحتياطات لعام كامل على الأقل في الأطعمة، والوقود، والأدوية، والمستهلكات الضرورية، وعمل تمارين لكل السيناريوهات المحتملة لأي كارثة طبيعية أو مفتعلة.
– تحسين سبل ووسائل الربط بكل أنواعه “البري، والبحري والجوي” ووضع طرق بديلة.
– تطوير فكرة قوات “العمل الخاص” وإعادة تموضعها في مواقع استراتيجية.
– تطوير وإعادة انفتاح القوات بحيث يضمن استمرار التواصل فيما بينها بسهولة.
– خطة أمنية مركزية وولائية من الوزارات ذات الصلة جاهزة للتطبيق فورًا، وعمل تمارين عملية عليها.
– تطوير واستدامة قيمة النفير في الأمة.
– الاعتماد على الذات وعدم انتظار الآخرين، فما يجمعنا أكثر بكثير جدًا مما يفرقنا.
هل تتوقع الحسم العسكري أم التفاوض، بعد أن تجاوزت الحرب عامًا وأربعة أشهر؟
معلوم لأي عسكري محترف أنّ الجيش سحق الدعم السريع كقوة عسكرية متماسكة ولم يعد لها وجودًا ولا قيادةً حتى المستوى العاشر، وبالتالي ستنتهي الحرب بالحسم العسكري فلم يبق هناك ما يتفاوض عليه، كما أن العدو دمر كل شيءٍ حتى خانة العفو فينا.
من أشعل الحرب هل هي “قحت” أم قوى خارجية من شحن التمرد وأوهمه بإمكانية استلام السلطة؟
نفس المستعمر القديم 1899م هو من أشعل الحرب ولكن بدُمىً سودانية عميلة (قحت المركزي)، ومخالب قط خارجية من دول الجوار والإقليم، وغدا ذلك بينًا كالشمس في رابعة النهار بعد “جنيف”.
هل كنت تتوقع اندلاع الحرب؟
البتة.. ولم أتخيل أن يغدُر “حميدتي” أبدًا، ولكنه تبدل بعد زيارة فولكر له في الجنينة ولا أدري لماذا؟ فحتمًا لم يكن في حاجة لمال أو منصب، ولكنها فتنة الله يصيب بها من يشاء.
المصدر:صحيفة الكرامة