ناجي أحمد الصديق الهادي المحامي
السودان
من استقامة الإحساس واستواء الشعور وتوازن العاطفة أن يحب الإنسان موطنه الذي نشأ وترعرع فيه وان يمدحه ويثني عليه وان يثور ويغضب فى وجه من يريد ازدراءه والانتقاص من مكانته ويعتبر هذ الأمر واحدة من بديهيات الحياة على وجه هذه الأرض تجده فى الإنسان كما تجده فى الحيوان فالأسود على سبيل المثال تحمى عرينها حتى الموت والإنسان يدافع عن وطنه حتى الموت أيضا ، وان كان الناس على استواء طبيعتهم تلك مشتركون فى ذلك الشعور . الموطن هو إحدى الأمكنة التى ارتبط بها الإنسان وربما كان هذا الارتباط ارتباطا وجدانيا يتم التعبير عنه شعرا ونثرا وربما يتراءى لك من خلال ذلك التعبير درجة من درجات الوله ، ذلك ممكن الحدوث تماشيا مع استواء المشاعر الذى ذكرنا ، ولكننا لا ندرى ان كان من استواء تلك المشاعر هجاء المدن بل التمادي فى ذلك الهجاء الى درجات الفحش فى القول والبذاءة فى التعبير والفظاظة فى الألفاظ كما اننا لا ندرى أيضا هل ينم ذلك الهجاء عن كره ام عن حب ؟ وهل من الممكن ان يكون الهجاء تعبيرا عن الشعور بالاستياء ؟ ام ان الهجاء لا ينشأ إلا عن بغض وان المديح لا ينشأ الا عن حب؟
لا حبذا أنت يا ام رمان من بلد أمطرتني نكدا لا جادك المطر
من صحن مسجدها حتى مشارفها حط الخمول بها واستحكم الضجر
فلا أحب بلادا لا ظلال لها يظلها النيم والهجليج والعشر
ولا أُحب أُناسا من جهالتهم أُمسى وأُصبح فيهم آمنا ذفر
هكذا صدح الشاعر الدكتور محمد الواثق غير وجل ولا هياب بهجاء مر مرارة العلقم فى ديوان ينم اسمه قبل رسمه عن استياء من مدينة ام درمان فأم درمان تحتضر ديوان جمع فيه الشاعر مجموعة من القصائد هى أقسى ما يهحو به شاعر مدينة ولعل الضجة الكبرى التى لازمت هذا الديوان منذ صدوره فى ستينات القرن الماضي وحتى الآن هى ابلغ دليل على ان الشاعر تجاوز –الى قدر كبير- ما يجب ان يكون بين شاعر ومدينة خاصة اذا كانت تلك المدينة هى من أحب الأمكنة لساكنيها وهو واحد منهم ، فهل كان الشاعر يكره ام درمان فقل ذلك الشعر تعبيرا متسقا مع ذلك الكره ؟ ام انه كان يحبها فجاء شعره كتعبير معوج كاعوجاج مشاعر ام درمان ومرتكسا كإرتكاس إحساس اهل ام درمان وقاتما قتامه مظهر ام درمان واسود كسواد مخبرها كما يرى هو؟
أولى أبيات هذا الديون تفصح لنا عن صفتين كرهما الشاعر في امدرمان فالصفة الأولى هى استحكام الخمول و الضجر بين أهلها والصفة الثانية هي هؤلاء الناس الذين لايحسنون فعل شيء حتى اضجروا الشاعر بهذا الموات الذي يعيش فيه الإنسان آمنا من عدم الحركة وعدم المبادرة وعدم الفعل لكأنه اراد ان يقول إنني لا أحبذك يا ام درمان لانك خاملة وميتة ولا ظلال لك ولا حياة لك ، فهل أراد ان يبرز لها عيوبها حتى تستطيع إصلاحها ؟ ام انه شاعر سوداوي الرؤى مظلم القلب لا يرى الا تلك العيوب ؟
كل قصائد الديوان فيها شيء من إبراز عيوب ام درمان ولا ندرى إن كان الناس كلهم يرون هذه العيوب ام أن محمد الواثق وحده من يراها ولكن الذى ندري أن بام درمان كما لكل المدن عيوب ومزايا وان العدل يتطلب معالجة العيوب وتعزيز المزايا ولكن الشاعر على خلاف أهل العلم أجمعين يعبر عن نفسه دون النظر إن تماشى هذا التعبير مع الرؤى العلمية والموضوعية فالشعر نوع من انواع الخيال لا شأن له بالحقائق .
لكنما انت يا ام درمان غانية تمرغت فى أباطيل وأوحال
هجنت كل جميل كنت اعشقه فلا أرى فى جميل غير محتال
هذه هى ام درمان فى نظر محمد الواثق غانية شابتها الأباطيل حتى صار كل جميل عندها قبيح فهل كان الشاعر يرى فى ام درمان امرأة صدمته في مشاعره حتى اخذ يتشبث بامرأة أخرى في مدينة أخرى ظن انها أوفى عهدا وأجمل صورة وأكثر قدره على ممارسة الحب؟
متى أمر على باريس منطلقا حيث الأنيس وحيث العيشة الرغد
قد كنت القى بها مونيك يعجبني جمالها الغض من لين ومن اود
مجاور ثغرها البسام بعض فمي وعاقد خصلة من شعرها بيد
ام ان ام درمان كانت رمز لهذا الجحود الكبير الذى وحده الشاعر من فئة ظن انها ستوفيه حقه؟
فقد رأيتك يا ام درمان باخسة من العطاء غطاء غير ممنون
وقد حبوتك يا ام درمان من كلمي حكمة موسى جرها نطق هارون
ام رأى فيها متناقضات كل المدن في الدنيا ومن بينها الجمع بين العباد والنساك واهل الصلاح وبين الفجار والخمار واهل الرزيلة يسعون جميعهم ما بين الجامع الكبير والمعهد العلمي وما بين الأزقة والمواخير وأماكن الرذيلة وداخل الغرف المظلمة
لكن وجدتك يا خرقاء معضلة جمعت بين شريف الفعل والدون
جينا يطوف ببيت الله ساكنها سعيا وحين على أعتاب لينين
لقد نقم الشاعر على أهل ام درمان لما رأى فيهم من همة نائمة وعزم فاتر موات وخمول ونقم كذلك على نيل ام درمان الذى خلق ليكون ملاذا للترويح فأصبح مرتعا للأغنام حتى دكنت ماءه ومكانا للتبول حتى تغيرت رائحته
لا الدار يهتاج الفؤاد لها والناس فى دورهم من طبعهم خدم
والنيل أدكن فى سلساله كدر مما تبول فيه الناس والغنم
هكذا سار الديوان يوغل صاحبه فى هذ الذم إيغالا وينتقي له الكلمات التعابير والصور انتقاء وهى فى مجملها صور يشمئز منها الإنسان وتتحاشها الطبيعة البشرية ولا احد يدرى الى أين تسوق الشاعر تلك الغضبة ولا الى أين تستقر به تلك الثورة .ولكنه يمضى دونما هوادة في ذلك النقد اللاذع والذم القاسي الى ان يبلغ مداه حينما قال
ابدت مفاتنها هونا تراودهم حتى استكانوا وزالت عنهم الحجب
لانت عريكتها حتى اريكتها نامت عليها رجال بعضهم جنب
الليل ما بذلوا مهر البغي له والكأس ما طاف فى حافاتها الحبب
هل قطع الشاعر بهذه الأبيات كل وشيجة له مع ام درمان ؟ بل هل قطع الشاعر تلك الوشيجة مع اهل ام درمان العاشقين لها تمتما كما عشق الشاعر مونيك : ام ان امدرمان واهلها سيصفحون عنه لانه شعر يقوله شاعر والشاعر كما يعلم الناس يقول الشعر من وحى الخيال لا من واقع الحقيقة.
لم يترك محمد الواثق ام درمان حتى شيعها الى مثواها الاخير غير آسف عليها وعلى وجودها بل انه يريد ان يتلهى عن رؤية نعشها بأي شئ حتى لو كان ذلك فى معاقرة للخمر
لقد اقبل النعش هات الكأس ما الخجل كى لا ترى جثة ام درمان يا رجل
كى لا ترى نعشها تمشى الرجال به منهم بطيؤ ومنهم مسرع وجل
وان فاحت الخمر منى في جنازتها قد اشرب الخمر كي لا تدمع المقل
هذه هى ام درمان فى مخيلة الدكتور محمد الواثق ولكننا لا ندرى اين هي في واقعه المنظور بصفتها مكانا للموئل والملاذ وبذاتها كعنصر من عناصر تكوينه الوجداني وبسمتها الباذخ بذوخ الطابية وبرسمها المجمل بنهر النيل والحامع الكبير وعبد الرحمن الريح وابراهيم عوض وببلبلها الغناء الذى صدح ذات يوم بملء فيه انا ام درمان انا الدر البزين بلدي