السودان اليوم:
(1)
القابلية للاستعمار مفهوم طرحه مالك بن نبي في كتابه شروط النهضة، وجوهره أن المستعمر يعمل على خلق نموذج من الاقتصاد والفكر والثقافة، وبعد أن تتم له السيطرة المعنوية والمادية يغدو المجتمع خاضعا ذاتيا للحدود الثقافية والاقتصادية التي رسمها له المستعمر ويتفاعل داخل صندوقها بل ويدافع عن هذه الحدود التي أقنعه بها المستعمر، ولذلك فإن القابلية للاستعمار حالة رضوخ داخلي عميق للاستعمار، وناتجة عن إقناع الاستعمار للمستعمرين بتفوقه الحضاري عليهم وعدم قدرتهم على إدارة قضاياهم وازماتهم الاقتصادية والسياسية والثقافية بدونه، ودونيتهم في كل شي.
(2)
إن القابلية للاستعمار حالة ذهنية ونفسية وسلوكية ترسخت في المجتمعات العربية والإسلامية حتى غدت عاجزة عن الفعل والمقاومة الحضارية، ضد الآخر الأوربي والأمريكي والإسرائيلي، وكلما اعترت هذه الشعوب صحوة حضارية اسكتتها بطشة حجاجية. ولن تتحرر المجتمعات العربية والإسلامية من حالة القابلية للاستعمار الا باستعادة قوامتها ومرجعيتها في الحكم وتخلصت من براثن نموذج دولة ما بعد الاستقلال الاستبدادية
(3)
لقد قادت الشعوب العربية والإسلامية في القرن الماضي الثورة الكبرى ضد الاستعمار، وقبل ان تكمل هذه الشعوب الموجة الثانية من الثورة وهي انجاز مهام البناء الوطني وترسيخ النظام الديمقراطي المستدام ، وبناء الدولة والأمة نشطت الحركة الصهيونية العالمية لإيقاف ثورة البناء الوطني بتغذية الأفكار القومية والماركسية والشعبوية والطائفية داخل الدولة القطرية العربية لأن الحركة الصهيونية تدرك أن زرع الدولة الصهيونية في فلسطين واستمرار تفوقها الحضاري والثقافي والاقتصادي لن يتأتى الا في ظل أنظمة عربية هشة وضعيفة واستبدادية ودولة قطرية متناقضة اثنيا وعرقيا وهوياتيا،ونخبتها الاستبدادية الحاكمة متعازلة عن مجتمعات تلك الدول بل متسلطة وقاهرة لهذه المجتمعات
(4)
هكذا كان شكل الدولة العربية في مرحلة ما بعد الاستقلال الوطني، وثمرتها على مستوى الصراع العربي، الإسرائيلي الهزائم المتتالية في حروب 1948، 1967، 1973، واختزال الصراع من صراع حضاري (إسلامي، اسرائيلي) ، إلى صراع (فلسطيني، إسرائيلي)، بل ويجب حل هذا الصراع الثنائي برضوخ الجانب الفلسطيني لإرادة الرؤيا الصهيونية والتي ستتحول بدهاء وخبث الصهاينة لإرادة عالمية لحل الصراع الفلسطيني، الإسرائيلي، وثمرة هذه الدولة القطرية الهشة تحول الكيان الصهيوني إلى صديق حميم، وإيران الإسلامية إلى عدو لدود، وثمرتها كذلك على المستوى الوطني الداخلي، متلازمة الفساد الاقتصادي والاستبداد السياسي،والتأزم حتى غدت في حالة انهيار مثل ليبيا وسوريا واليمن أو قابلة للانهيار كالحالة السودانية
(5)
وثمرة هذه الدولة على مستوى المواجهة والفعل الحضاري، الرضوخ والاذعان التام لنظرية التفوق الإسرائيلي على العالم العربي والإسلامي بل والتهافت نحو الكيان الصهيوني لانتشالنا من أثقال هزيمتنا الحضارية المركبة، وهذا العقل المتهافت والمأزوم لا يدرك أن التطبيع مع إسرائيل يعني التطبيع مع استمرار حالة الهزيمة الحضارية، والتطبيع مع ذهنية ونفسية القابلية للاستعمار، ويعني التطبيع مع نظرية التبعية.
(6)
ان التطبيع مع إسرائيل، هدفه منح العقل الاستبدادي الضوء الأخضر لبطش وقهر المجتمعات العربية التي انبرت في ثورات للتصدي لأنظمة الاستبداد ولتأكيد إرادتها وقوامتها في الحكم لأن الكيان الصهيوني يدرك مدى قوة تحقق إرادة المجتمعات العربية في الحكم وتأثيرها في معادلة حسم الصراع الحضاري مع كيانه المغتصب، والكيان الصهيوني يدرك أن أكبر مهدد لوجوده، الثورة الديمقراطية، والحرية، وقوامة المجتمعات في الحكم
(7)
لذلك يجب قراءة اي اتجاه للتطبيع مع إسرائيل خاصة في مراحل الانتقال السياسي من نسق النظام الاستبدادي القديم إلى النظام الديمقراطي بأنها زعازع ثورة مضادة هدفها الالتفاف على قيم ومنجزات الثورة الوطنية وشروع لانتاج نسخة نظام استبدادي جديد، وهذا يعني أن ميزان القوة بين مؤسسات التيار الديمقراطي، ومؤسسات الاستبداد مختلة لصالح المؤسسات الاستبدادية. وتراكم الاستبداد التاريخي جعل المجتمع في حالة قابلية للتكيف معه إذا ارتكس مشروع الانتقال والتحول الديمقراطي، خاصة أن مؤسسات الدولة الاستبدادية الصلبة لها القابلية للتكيف والانقضاض على الحكم من جديد، في ظل حالة البينونة والانقسام وسط القوى السياسية المدنية
(8)
ولذلك يجب مواجهة هذه النزعات بتلاحم واصطفاف كل القوى السياسية والمدنية والاجتماعية في كتلة تاريخية حرجة للتصدي لمشروع زعازع الثورة المضادة وإنقاذ مشروع الثورة الوطنية الديمقراطية حتى تستوي شعاراته، حرية وسلام وعدالة على الجودي.
The post التطبيع مع إسرائيل القابلية للاستعمار.. بقلم عثمان جلال appeared first on السودان اليوم.