بعد أن أغلق الجيش السوداني الباب أمام الجدل المتعلق بقوات الدفاع الشعبي، عقب ظهور وثيقة مسربة تتحدث عن تحويلها إلى “قوات احتياطي”، عادت تلك القوات التي أعلن عن حلها في أعقاب الإطاحة بنظام الرئيس السابق عمر البشير، لتدخل دائرة الضوء مجددا.
وبعد الانتقادات الواسعة والجدل الذي أثارته هذه الوثيقة على وسائل التواصل الاجتماعي، نفت القوات المسلحة السودانية بشدة صحة تلك الأنباء.
وأكد المستشار الإعلامي للقائد العام للقوات المسلحة السودانية الطاهر أبو هاجة، في بيان، بحسب شبكة اسكاى نيوز عدم صحة ما تم تداوله مؤخرا من أخبار عن إعادة تسمية قوات الدفاع الشعبي بـ”قوات الاحتياطي”.
وقال البيان إن القوات المسلحة “لن تتراجع عن القرارات الخاصة بحل قوات الدفاع الشعبي ومنسقياته، ومنسقيات الخدمة الوطنية الإلزامية، بالإضافة لهيئة العمليات الخاصة بجهاز الأمن والمخابرات الوطني السابق”.
ولفهم أسباب موجة الغضب المتعلقة بتلك الوثيقة المسربة، لا بد من فهم طبيعة تلك القوات المثيرة للجدل، والأدوار التي قامت بها.
أُنشأت قوات الدفاع الشعبي في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، تحت إمرة وزير الخارجية الأسبق علي كرتي، العضو النافذ في تنظيم الإخوان والمعتقل حاليا على ذمة عدد من قضايا الفساد.
ويقدر تعداد هذه القوات بأكثر من 100 ألف فرد، يعمل أغلبهم في دواوين الحكومة والقطاع الخاص، وكان يتم استدعاؤهم من وقت لآخر للمشاركة في المعارك إبان فترة الحرب الأهلية في الجنوب والمناطق الأخرى.
واعتبر البعض أن قوات الدفاع الشعبي “صورة طبق الأصل من الحرس الثوري الإيراني، نظرا لولائها الأيديولوجي الشديد للنظام، ورفعها الشعارات الدينية في ميادين الحروب”.
نفوذ كبير
تمتعت قوات الدفاع الشعبي بنفوذ كبير خلال فترة الحروب الأهلية في السودان، وسخر نظام عمر البشير وسائل الإعلام الرسمية، على رأسها التلفزيون القومي، لبث رسائل الحشد المعنوي في أوساط أفراد تلك القوات.
وإمعانا في التوجه الأيديولوجي لتلك القوات، ظل أفرادها يحرصون من فترة إلى أخرى على تقديم “بيعة الولاء” للنظام، من خلال الطقوس الدينية المعروفة لدى الجماعات المتشددة.
وكان يطلق على تلك القوات “كتائب الجهاديين”، وضمت مجموعات شرسة من بينها “الدبابين”، الذين قاتلوا بضراوة في الجنوب. ويرى الكثيرون أن “النهج الجهادي” الذي مارسته تلك القوات في حرب الجنوب، هي التي أدت إلى انفصاله وتشكيل دولة جنوب السودان ذات الغالبية المسيحية.
حماية النظام
لعبت قوات الدفاع الشعبي دورا كبيرا في حماية النظام خلال الأعوام الثلاثين الماضية، رغم الفساد الذي مارسه وتدميره الممنهج لاقتصاد البلاد والزج بها في حروب داخلية عديدة، راح ضحيتها مئات الآلاف في الجنوب ودارفور وكردفان والنيل الأزرق.
وإضافة إلى إثارتها للكراهية في الجنوب، يعتقد على نطاق واسع أن ممارسات وسلوكيات قوات الدفاع الشعبي كانت سببا في إطالة أمد الحروب الأهلية التي اندلعت في دارفور عام 2003، التي تبعتها حروب أخرى في جنوب كردفان والنيل الأزرق.
ويقول محللون إن واحدة من المشكلات الكبيرة المرتبطة بالدفاع الشعبي، كانت تتمثل في “عدم الالتزام بعقيدة عسكرية مهنية”، مما يجعل من الصعب السيطرة على سلوكيات مقاتليه، مما أدى إلى اختراقات كبيرة أفشلت عددا من اتفاقيات السلام الموقعة في فترات مختلفة.
ويتهم ناشطون قوات الدفاع الشعبي بـ”المشاركة الصريحة” في عملية فض اعتصام السودانيين أمام مقر القيادة العامة في يونيو 2019، كما يتهمونهم بالضلوع في “الثورة المضادة”.
وعلى الأرض، ما زالت قوات الدفاع الشعبي تشكل خطرا حقيقيا على الأمن القومي، فعندما أشارت تقارير في نوفمبر 2019 إلى اتجاه لتسليم البشير للمحكمة الجنائية الدولية، توعدت تلك القوات في بيان بـ”إشعال حريق في كل أنحاء السودان” إذا تم التسليم.
قوات الدفاع الشعبي “في عيون السودانيين”
ويقول الخبير العسكري الاستراتيجي أمين إسماعيل مجذوب لـ”سكاي نيوز عربية”، إنه بالرغم من أن الوثيقة المسربة هي على ما يبدو “وثيقة داخلية” والنفي الذي أعقبها من القوات المسلحة، فإن الشارع السوداني ينظر لقوات الدفاع الشعبي بـ”ريبة كبيرة”، نظرا لارتباط تلك القوات بالكثير من الانتهاكات في حرب الجنوب، تحت مسمى “الجهاد” والشعارات الحزبية التي كانت ترفعها في المعارك.
كما أنها شاركت في أعمال قمع للشارع السوداني خلال احتجاجات سبتمبر 2013 وديسمبر 2018، التي قتل فيها المئات من المواطنين.
ووفقا لمجذوب، فإن الجدل الدائر حول قوات الدفاع الشعبي يجب أن يحسم سريعا عبر “توضيحات صريحة تؤكد حلها، لأن الشكوك حول وجودها تثير مخاوف كبيرة في الأوساط السودانية”.
من جانبه، يرى الإعلامي طه النعمان، أن الشارع السوداني “لن يسمح بعودة مليشيات الدفاع الشعبي تحت أي ظرف أو مسمى، لأنه يعي تماما طبيعة تلك القوات ذات البعد الأيديولوجي الواضح”.
واعتبر في حديث مع “سكاي نيوز عربية”، أن قوات الدفاع الشعبي هي في الأساس “ميليشيات تدين بالولاء الكامل للنظام السابق وأسهمت بشكل مباشر في تأجيج النزعة الانفصالية لدى سكان الجنوب، بسبب انتهاجها نهجا عقائديا واضحا خلال مشاركتها بعد انقلاب البشير في 1989، في حرب الجنوب والحروب الأهلية الأخرى في جنوب كردفان والنيل الأزرق وغيرها من المناطق”.
وتابع: “لقد لبست ثوبا جهاديا صور الحرب في تلك المناطق وكأنها حرب بين الإسلام ومكونات المجتمع الأخرى، وظهر ذلك جليا من خلال الأغاني والشعارات والحملة الإعلامية التي تبنتها تلك القوات”.
تسييس معلن
ووفقا للناشط إبراهيم بخيت مكين، المهتم بالنزاعات المحلية، فإنه بعد سيطرة الجبهة الإسلامية القومية على السلطة في انقلاب الثلاثين من يونيو 1989، عمل قادتها على تعميم فكرة الدفاع الشعبي على السودان، عبر معسكراتهم المركزية بالقطينة وخور طقت وغيرها، قبل أن تشمل لاحقا مدن وقرى السودان المختلفة.
واعتبر أن ذلك جاء “كجزء من الاستغلال والتسيس المعلن، وخلق حاضنة سياسية أمنية من خلال قوات الدفاع الشعبي، بما يخدم مصالح النظام، ليصبح قوة موازية لقوات الشعب المسلحة”.
وأضاف مكين لموقع “سكاي نيوز عربية”، أن الدفاع الشعبي تحول بذلك إلى “أداة استخدمها النظام البائد للبقاء والحفاظ على السلطة، ومنح نفسه نفوذا كبيرا مارس من خلاله الكثير من البطش والتنكيل ضد الشعب السوداني، خصوصا في مناطق الحروب”.
وشدد الناشط على أنه “لا مجال للترويج لإعادتها (قوات الدفاع الشعبي) في ظل الوضع الجديد الذي ساد البلاد عقب الثورة، وفي ظل رفض المجتمع الإقليمي والدولي للتشكيلات الأمنية المبنية على أسس أيديولوجية”.
الخرطوم ( كوش نيوز)