غير مصنف --

السَفَر المَهِيبْ بلا وداع .. هجُو الامام.. بقلم العيكورة

السودان اليوم:
لم نستوعب ليلة العيد أن نبضاً فاعلاً فى قُلُوبنا لن يُدرك العيدُ معنا غداً ، نعم كان يضعُ عصا الترحالُ مُستعجلاً كأنما يقُولُ لنا أن العيد هُناك فى جناب الرحمن عند مليك مُقتدر ،عصر اليوم الموعُود كان بالمُستشفى داخلاً وفى المغرب كان صاعداً الى ربه مرضيا تُحلق به مائة وأربعة عشرة سورة حواها صدره حِفظاً وتجويدا من بين دفتى المصحف ثمّ قرأها على الشيخ على بيتاى وشيخُ آخر بغرب السودان حدثني عنه لا أذكُرُ اسمه ضرب لهُما أكباد الابل زادهُ قِرَبُ الرواحلِ وناشفُ الخُبز جلس إليهُما يُرتل ويرتقى وهو ضابط الشُرطة المهيبُ بين رفاقة يُطأطئُ رأسه لشيوخ القرآن إجلالاً وتوقيراً لأهلِ العلم . نعم هو غادرنا بلا وداع هاتفه أحدُنا وهو بالمستشفى فكان يُحدثهُ عن السّفر وعن الرحيل ولم يقُل له إني راحلٌ . لم تكُن لمجموعات التواصل الاجتماعى التى تجمعُنا به مرجعٌ فى التجويد والفتوي واللُغة العربية إلا هُو وإن غاب إنتظرناهُ يُحدثُنا عن المكيُ والمدنيُ والمنسوخ والمُتشابه كما يُحدثُنا عن الصحيح والموضُوعِ والضعيف من الأحاديث ، وله فى علم التابعين والمُحدثين بحرٌ لا يطاله سابح كما لهُ من أشعار العرب وعلومهم ما يجعلك حائراً أأنت أمام مؤرخٌ أم فقيه . ما أصاب الناسُ من سُنن الحياة صائبٌ إلا وتقدم الركب (هجُو) وتحزّم للمُدلهمات فما بدأ جمع مُساعدة ماديه إلا به وما جمعتنا مائدة طعامٍ إلا تحت إشرافه وما تحرك ركبُ مؤاساةٍ أو تهنئة الا كان هُو على صدره ، هاشاً باشاً ذو طُرفة يُطلقُها فى ثنايا الحديثُ له من مُلَح التابعين والصالحين الممزوجة بالدين الكثير التى تدخلُ الضحكة وتزيدُ المعلومة ، ذات مرة سافر لدولة عربية لمؤتمر علمي فقال لى عن معهُ ممثله لجامعة أخرى لم تقرب سُورة (الدُخان) ففهمت أنهُ يُريدُ أن يقول أنهُا غير مُتزوجة .كان حُلو الكلام خفيف الطرفة عفيف اللسان صادقُ الضحكة حتى لو كان مُتضايقاً من أمرٍ ما فيُحكيه لك ضاحكاً .
العميد شرطة الدكتور هجُو الامام محمد نور إبن قرية (الدومة) ريفى ود الحدّادْ جنُوب الجزيرة عندما خرج الفتي فى طلب العلم كان فى صدره شيٌ من القرآن وأخلاق القرية ومُثُل وشهامة . كانت جامعة الإسكندرية هى ما أذاعهُ المذياعُ يومها : الطالب هجو الامام محمد نور لكلية الآداب قسم اللغة العربية فى أواسط الثمانينيات . فهُناك التقيناهُ كُلٌ منّا يحملُ شنطة صفيح وخبز ناشف ومسبحة ووصايا الاهل (تمائمٌ) على أعناقنا مليئةٌ بالمُروءة والصْدق وبساطة أهلنا فى الريف ، نفرٌ كريمٌ جمعتنا ذات المبادئ بفاتنة البحر الأبيض المُتوسط (الإسكندرية) عهدٌ وصدقٌ وإخاء لم نستطع الفكاك منهُ الى يومنا هذا حتى ألحقنا به أبنائنا وجمعتنا معهُم الموائد يستمعُون فى دهشة لشباب آبائهم من افواهِ الآخرين . حقّاً رحل (هجو) ليلة العيد بلا وداع كان بالأمس يُحاورنا ونُحاورُه عبر (الواتساب) ولم يقُل إنهُ مريض وأن الرحيلُ قد أزفْ وأن ما فى اللّوحِ هو ما باللّوح لا يُقدّم ولا يؤخر إذا جاء . ونحسبُ أنهُ قد إرتقى شهيداً فى أيامٍ مُباركات إثر علّة لم تُمهله طويلاً ، لم يكتفى الفتي بدرجة الليسانس فى اللغة العربية بعد عودته للسودان تخرج فى كليّة الشُرطة الدُفعة (60) جامعيين وإنخرط ضابطاً برتبة (ملازم أوّل) مُتنقلاً فى الوظيفة والمهام . إلاّ أن نفسُ الفتى الشغوفة بالتعلُمِ لم ترتاحُ ولم ترضى الرُكون الى الوظيفة العسكرية البرّاقة فحصل على درجة (الماجستير) من جامعة القُرآن الكريم فى عِلم القراءات ثُم الدُكتوراه من جامعة الرباط فى العُلُوم الشُرطية ثُم تواصل العطاء والتجويد للشرطة وللقرآن والعلم معاً فقرأ علي الشيخ على بياتى وآخرين ونال الإجازات العلمية منهُم . و ظلّ يتنقلُ بين مدنى وكسلا والخُرطوم حتى رُتبة (العقيد) فكُلف فى أواخرها مسؤلاً عن حماية المُنشآت الإستراتيجية بالعاصمة ثُمّ كُلف بعدها نائباً لمدير معهد البحوث والدراسات الجنائية بجامعة الرباط ثُم أحيل للتقاعد برتبة (العميد) ، وسُرعان ما تلقفه معهد إسلام المعرفة بجامعة الجزيرة نائباً للعميد ثم عميداً له وظل فيه حتى تمّ حلُهُ مؤخراً ساهم خلالها بحُضُورعلمى و أوراق بحثية بقطر و تونس . لم يضع القلم والنفس الطيبة والوجه الصبوح عن راحتيه يُقدمها لكل من يلتقيه حتى غادرنا بالأمس الى رحاب ربه ، هُو بحرٌ فى الصبر قبل أيامٍ قلائل إحتسب والدته فى نعيً مُؤثر وقبل سنتين تقريباً إحتسب إبنه طالب الصيدلة (مُحمّد) فعلمنا كيف يكونُ الصبرُ والإحتساب . وبعد أن مضي البارحة لم نجد من يُعيدُ لنا الدرس فآلمنا الفراق وأبكانا النوي وكابدنا التصبر و الثبات وكأننا لم نقرأ (ولنبلونّكُم….) الآية ، فرحماك رحماك يا ربى فما أقسي فِراقُ المُتحابين في جنابك .

اللهُم إن عبدُك وأخانا وحبيبنا هجُو الإمام محمد نُور فى رحابك وهو الفقيرُ الى رحمتك وأنت الغنيُ عن عذابه اللهُم فأكرم نُزُله و وسع مُدخلهُ وآنس وحشته وأبدله اللهم داراً خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله وأحشرهُ مع زُمرة المُقربين الأخيار فى روحٍ وريحانٍ وجنة نعم واربط على قلب أسرته وأهله وعشيرته وإخوانه ومُحبيه صبراً وإحتساباً وأجعل اللهُم البركة فى ذريته وعُقُبه . (إنا لله وإنا إليه راجِعُون)

The post السَفَر المَهِيبْ بلا وداع .. هجُو الامام.. بقلم العيكورة appeared first on السودان اليوم.

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى