واشنطن لا تملك رؤية واضحة في التعامل مع الصراع في السودان
الولايات المتحدة تلوح بعقوبات جديدة قد تجبر الأطراف المتصارعة في السودان إلى العودة إلى طاولة المفاوضات.
تخبط أميركي
الخرطوم – أفقد تمسك الولايات المتحدة بسياسة العصا والجزرة في التعامل مع الصراع الدائر في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع قدرتها على التأثير بقوة في مساراته، وتسبب استخدامها أداتي المفاوضات تارة والعقوبات تارة أخرى مع كليهما في عدم تعويل أحدهما على انحيازها إليه، حيث تفتقر إلى رؤية واضحة وغير قادرة على ممارسة ضغوط لاستعادة مسار ديمقراطي راهنت عليه في السودان.
وعلى ضوء المشاهد الإنسانية التي تثبت خطورة الموقف في السودان بدأت واشنطن تتحرك بما يوحي بأنها معنية بتفكيك الأزمة وممارسة ضغوط على طرفيها كي يرضخا للتسوية، عبر التلويح بعقوبات جديدة قد تجبرهما على العودة إلى طاولة المفاوضات.
وقال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إن “الصراع في السودان تسبب في وقوع معاناة إنسانية”، ملمحا إلى إمكانية اتخاذ قرارات حال توافر معلومات إضافية حول تصرفات الأطراف، وإن بلاده “ملتزمة باستخدام الأدوات المتاحة لإنهاء الصراع ووقف ارتكاب انتهاكات تحرم الشعب من الحرية والسلام والعدالة”.
محمد تورشين: موقف الإدارة الأميركية من الصراع لم يتبلور بشكل كافٍ
محمد تورشين: موقف الإدارة الأميركية من الصراع لم يتبلور بشكل كافٍ
وتعاملت دوائر سودانية مع هذا الموقف كمحاولة توحي من خلالها واشنطن بأنها لن تترك السودان طويلا، وأن فشل مفاوضات جدة بين الجيش والدعم السريع قد يدفعها إلى المزيد من العقوبات دون تفرقة بين الجانبين، وهو السلاح الذي جربته سنوات طويلة في عهد الرئيس السابق عمر البشير ولم يحقق أهدافه كاملة، لكنه حافظ على دور مادي ومعنوي لها في السودان.
ودعا بلينكن الأربعاء الجيش والدعم السريع إلى “الوقف الفوري للقتال والامتثال لالتزاماتهما بموجب القانون الإنساني الدولي، والقانون الدولي لحقوق الإنسان، ومحاسبة المسؤولين عن الفظائع”، ما يشي بأن خطاب الخارجية الأميركية الأخير له دواع إنسانية أكثر منها سياسية، خاصة مع ارتفاع عدد الضحايا في السودان.
وظهرت الولايات المتحدة كمن يتجنب ممارسة ضغوط قوية على قائد الجيش الجنرال عبدالفتاح البرهان، على الرغم من وجود معلومات مؤكدة حول دوره في الخروج عن مسار التحول الديمقراطي بعد انقلابه على الحكومة المدنية، وسعيه لتكريس دور المؤسسة العسكرية في الحكم، لكن تصاعد حدة الأزمات الإنسانية قد يجبرها على توسيع نطاق التدخل.
ونفذ الجيش حملة مكثفة من الضربات الجوية على أحياء سكنية سيطرت عليها قوات الدعم السريع في الخرطوم، ما يمثل انتهاكا للقانون الدولي، ولم تجد هذه الحملة ما يستحق من إدانة أميركية، مفضلة التمسك بالمساواة بين طرفي الصراع.
ويقول خبراء إن تقديرات الخارجية الأميركية جاءت نتيجة تحليلات لما يجري في السودان، ولا تتضمن تبني إجراءات عقابية مباشرة الآن، لكن تقارير صحفية لم تستبعد عزم واشنطن فرض عقوبات جديدة على قادة في الجيش والدعم السريع.
وقال المحلل السياسي السوداني محمد تورشين إن “موقف الإدارة الأميركية من الصراع لم يتبلور بشكل كاف، وفي كل تصريح يصدر من وقت إلى آخر نجد تباينا في المواقف، وفي كلام بلينكن الأخير هناك ما يشي بوجود مساع لإعادة قراءة الأزمة بما يحافظ على بقائها في خانة المسافة الواحدة من الطرفين”.
وأضاف تورشين في تصريحات لـ”العرب” أن “موقف واشنطن الرمادي يشجع الميليشيات والجماعات المسلحة على الانقضاض على السلطة بالقوة، ويفتح تأويلات بأنها تدعم الانقلابات العسكرية، وفي السابق كانت مواقفها رافضة للسيطرة على السلطة بالقوة، ما يجعل التوجه الحالي مخالفًا لمبادئ السياسة الخارجية للولايات المتحدة”.
وأكد على وجود بعض التعقيدات التي تواجهها واشنطن بشأن التعامل مع السودان، حيث ترى أن عددا من العناصر العسكرية داخل الجيش تتبنى رؤى التيارات الإسلامية، وهو ما يتناقض مع المصالح الأميركية، ويجذبها أكثر نحو عدم دعم أي من الطرفين، وتأمل في المقابل أن تدور معارك تفضي إلى إضعاف القوة القتالية لطرفي الصراع، وإعادة النظر في تشكيل جيش سوداني يراعي مصالحها في المنطقة.
وفرضت الولايات المتحدة عدة حزم من العقوبات بعد اندلاع الحرب في منتصف أبريل الماضي، طالت عددا من المسؤولين السودانيين السابقين، أغلبهم من المحسوبين على نظام البشير وينتمون إلى الحركة الإسلامية، وطالت العقوبات أيضا شركات اتهمت بتأجيج الصراع من دون أن تستهدف بها الجيش والدعم السريع مباشرة.
بلينكن دعا الجيش والدعم السريع إلى “الوقف الفوري للقتال والامتثال لالتزاماتهما بموجب القانون الإنساني الدولي، والقانون الدولي لحقوق الإنسان، ومحاسبة المسؤولين عن الفظائع
وواجهت مفاوضات منبر جدة بوساطة سعودية – أميركية لوقف القتال بين الجيش والدعم السريع مؤخرا عقبات كبيرة أدت إلى تعليقها لأجل غير مسمى، ما يجعل اللجوء إلى العقوبات حاليا والتلويح بها مستقبلا وسيلة للتغطية على فشل ترك انطباعا بأن واشنطن لم تعد فاعلة في السودان ولا تريد تبني موقف حاسم حتى الآن.
وتعود واشنطن إلى إشهار سلاح العقوبات في وجه قيادات سودانية كلما زادت حدة الصراع أو فشل مسار المفاوضات، وعادت هذه المرة في خضم حدوثهما معا، حيث تمكنت قوات الدعم السريع من تحقيق انتصارات كبيرة، ما دفع الجيش إلى ارتكاب المزيد من الانتهاكات في حق المدنيين، كما دخلت محادثات جدة نفقا من الجمود، ولا أحد يعلم مصير مبادرات أفريقية أخرى بدت معنية بوقف الحرب.
وتشعر قوى مدنية سودانية بخيبة أمل في الولايات المتحدة، والدول الغربية بشكل عام، حيث تركت الجيش يعبث بالفترة الانتقالية حتى انفجر صراع لا أحد يعلم المدى الذي يمكن أن يذهب إليه عقب اشتداد المعارك وتصميم كل طرف على أنه قادر على حسم الموقف، وبدأت المؤسسة العسكرية السودانية تتنازعها ولاءات متضاربة، وتمكنت قيادات في النظام السابق من السيطرة على بعض مفاتيحها.
ويقول مراقبون إن تشتت الإدارة الأميركية في أكثر من صراع، مثل الحرب الروسية – الأوكرانية والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، جعل السودان في مرتبة متأخرة من سلّم أولوياتها، وتريد الحفاظ على قدر من الحضور فيه، فوجدت تشجيع المفاوضات طريقا مريحا، والعودة إلى سلاح العقوبات مسارا مفضلا لها.
ويضيف المراقبون أن هاتين الأداتين لن تكون لهما نتائج إيجابية ما لم تمارس واشنطن ضغوطا كبيرة، وتتحدث صراحة عن موقف الجيش المتخاذل من وقف الحرب، وتكشف الجهات المحلية التي تقف وراء استمرارها، لأن الصمت طويلا على فلول البشير وقيادات الحركة الإسلامية يضع حول واشنطن علامات استفهام، وتبدو العقوبات ستارا للتغطية على عدم المواجهة المباشرة لهؤلاء أو قبولا بممارساتهم