
لم أشعر بالدهشة حين رأيت صورة ذلك الأستاذ الجامعي مشاركًا في مسرحية “مهرجي نيروبي” السمجة. بل كان ذلك متوقعًا منه تمامًا.
في عام 2015، كنا في سنتنا الأخيرة بجامعة أم درمان الإسلامية عندما ظهر اسمه لأول مرة في جدول المحاضرات، مقرونًا بمادة الطاقات المتجددة. رحّبنا بإدراج هذه المادة، فقد كان الحديث عن الطاقة المتجددة ومستقبلها في السودان يتصدر المشهد آنذاك. لكن سرعان ما تبخرت آمالنا في أول محاضرة.
لم يكن الأستاذ معنيًا بالمادة إطلاقًا. راح يشرّق ويغرّب في حديثه، متناولًا السياسة وأمورًا لا تمت للطاقات المتجددة بصلة. لكن أكثر ما أثار غضبنا كان تصريحه بأنه لن يمنح الطلاب أكثر من درجة “مقبول”، وأن الأغلبية سترسب!
شعرنا بأن بقاءنا في محاضراته ضربٌ من العبث، فاجتمعنا وقررنا التصعيد. كتبنا خطابًا رسميًا إلى رئيس القسم، سردنا فيه بالتفصيل سلوك الأستاذ الذي لا يليق بجامعة عريقة كـجامعة أم درمان الإسلامية، ذات الرسالة المعرفية العالمية.
لا زلت أذكر جيدًا إصراري على تضمين هذه الجملة في الخطاب، وقد أثارت عند رئيس القسم رد فعل غير متوقع، إذ قال:
“حين قرأت الجملة، خُيّل إليّ أنه سبّ الدين أو ارتكب أمرًا جللًا!” وكأن ما فعله لا يقل فداحة.
كي لا يتحول الأمر إلى صدام مباشر، طلبنا استبدال المادة بمادة نظام نقل الطاقة بالتيار المستمر (HVDC)، وهو أمر كان متاحًا، إذ جرت العادة أن يُتاح لطلاب السنة الخامسة الاختيار بين المادتين.
لكن الأمور لم تسر كما توقعنا. اجتمع معنا أساتذة القسم، بحضور أحد الدكاترة الذين كنا نثق بهم كثيرًا، وله دور بارز في نهضة كلية الهندسة آنذاك. نشأت بيننا وبينه علاقة طيبة بسبب دعمه الفعّال لإقامة أسبوع المهندس في الجامعة. ناقشنا الأمر مطولًا، وكان رأيه – الذي تبناه باقي الأساتذة – أن تغيير الأستاذ وفق رغبة الطلاب سيفتح بابًا يصعب إغلاقه، كما أنه سيشكل إساءة لإدارة الكلية والقسم. أكد لنا أن الإدارة تملك وسائلها لرصد أي تجاوزات في النتائج، وأن علينا التركيز فقط على الدراسة.
استسلمنا للأمر الواقع واستمررنا في حضور المحاضرات، لكن النتيجة كانت كما توقعنا: رسوبٌ جماعي وضعفٌ أكاديمي كارثي. تسببت هذه المادة في خفض تقدير العديد من الطلاب، والأدهى أننا لم نكتسب أي معرفة حقيقية عن الطاقات المتجددة، إذ كان الأستاذ نفسه يفتقر إلى الحد الأدنى من المعرفة بها.
بعد التخرج، وأثناء أحد التدريبات، التقيت بأحد خريجي جامعة نيالا. بمجرد أن علم أنني من جامعة أم درمان الإسلامية، بادرني بالسؤال عن هذا الأستاذ. لم أبخل عليه بالمعلومات، فضحك وقال:
“أخبرنا بأنه ذاهب إلى الخرطوم لتحرير الجامعات السودانية!”
حينها، أدركت أن الأمر لم يكن مجرد خلل شخصي أو شعور بالنقص يحاول الأستاذ تعويضه – كما يفعل كثير من الأكاديميين. بل كانت حالة أيديولوجية ممنهجة، تستبطن صراعًا قبيحًا بين المركز والهامش، لا علاقة لها بالعلم ولا بالتدريس.
لكن الأسوأ من ذلك كله، أن تتحول هذه الأجندات إلى سلاح مضاد للعملية التعليمية، يتجرد فيه الأستاذ من أخلاق رسالته، ويسقط في مستنقع صراعات لا تمت للعلم بصلة.
سكوت مجتمعاتنا عن هذه الممارسات العنصرية والتخريبية يغذيها أكثر، فهي تقتات على الضعف والخنوع. لا بد من رفضها تمامًا، والرد عليها بحزم، كما أن العفو والحلم والتغاضي عن الجاهلين فضائل محمودة، لكن لا بد لها من قوة تحميها حتى لا تصبح غطاءً للاستغلال والتلاعب بمصائر الطلاب.