كثيرا ما يفتخر السودانيون بأنهم شعب صنع ثلاث ثورات جسورة، الأولى في الـ21 من أكتوبر عام 1964، والثانية في الـ6 من أبريل عام 1985، والثالثة في الـ19 من ديسمبر عام 2018، ولكن لا أحد يسأل _بكل صراحة_ لماذا ثلاث ثورات؟ وهل تعدد الثورات دليل عافية وطنية؟
على سِياق طُرفة منسوبة لصحفي أمريكي يقول فيها (أستغرب ألّا يستطيع المرء مقاومة نفسه والإقلاع عن التدخين، فأنا شخصيا أقلعت خمسين مرة!)، فالإقلاع خمسين مرة عن التدخين يعني بعبارة أخرى العودة إليه بالعدد ذاته، وأيضا القيام بثلاث ثورات يعني العودة للدكتاتورية بالعدد ذاته، وإلا لما احتاج الشعب لتكرار الثورة.
يصبح السؤال المنطقي، لماذا تنتكس ثورات السودان، فتعود إلى الذي ضده ثارت؟
الإجابة عنوان لخريطة الطريق التي يجب أن تتبعها الدولة السودانية لاستدامة الاستقرار وإخراج السودان من دائرة العَوز الاقتصادي الذي أدقع أهله وحرم الأجيال من استثمار موارد هائلة يتمتع بها وطنهم مترامي المساحات.
قراءة السيرة الذاتية للثورات الشعبية السودانية تفضي دائما إلى مشترك، فرغم فارق الزمان والأجيال وحتى الشخصيات التي تقود هذه الثورات، يبقى القاسم المشترك أن الممارسة السياسية هي المسؤول الأول عن سقوط الثورات.
بمجرد انتصار الثورة الشعبية واقتلاع نظام الحكم الدكتاتوري تبدأ الأحزاب السياسية سِباقا محموما نحو الفوز بأكبر قدر من السلطة، فتمارس الإقصاء المتبادل في غياب تام للبرنامج التنموي الذي يُخرج البلاد من الظلمات إلى النور.
وإذا كان الساسة في الأجيال السابقة _في غالبيتهم _ لم ينالوا شهادات علمية رفيعة واعتمدوا على التجارب الذاتية في ترفيع مقدراتهم القيادية، فإن ساسة اليوم غالبيتهم تخرَّجوا في أعرق الجامعات بأرفع الشهادات وأدق التخصصات، ومع ذلك لا تبدو الممارسة مختلفة عن السابق.
من متابعتي العميقة للمشهد السوداني، في تقديري أن الخلل في منهج التفكير السياسي عند النخب السودانية أنها تفرط في التقيد بالمصطلحات دون التحديق في جوهرها والمعنى الفني المباشر، فكلمات مثل الديمقراطية والحرية والمدنية وغيرها من مترادفات الـ“ية“ تستهوي الساسة، فيسرفون في تشخيص العلل وتوصيف الدواء بناء على المصطلح دون النظر في الحالة السودانية واستيعابها في توصيف دقيق لا يقتصر على المصطلح.
مثلا يدور هذه الأيام حديث متواصل عن ”المدنية“ كغاية في الحراك الجماهيري الراهن، والواقع أن المصطلح لا علاقة له بالمعنى المقابل لـ“العسكرية“.
”العسكرية“ مهنة ترتبط بمواصفاتها المعلومة، لكن ”المدنية“ ليست مهنة، وليس لها مواصفات ذات بعد مرتبط بـ“شخص“ مَن يقود الحكم. وفي التجربة السودانية كان رئيس الوزراء عبدالله خليل (1956- 1958) مدنيا رغم أنه عسكري؛ إذ كان ضابطا في الجيش، ثم خلفه في الحكم الفريق إبراهيم عبود فوصِف حكمه بالعسكري رغم أن كلا الرجلين كان عسكريا. التوصيف ”مدني“ لحكم خليل و“عسكري“ لحكم عبود يجدر ألّا يرتبط بالشخصين بل بمنهج وأسلوب الحكمين.
على هذا القياس، فإن تحقيق مبدأ ”المدنية“ اليوم في سياق الأزمة السودانية السياسية الراهنة لا يمكن قياسه بالأشخاص بل بالممارسة، وبالتحديد توصيف المؤسسات الرئيسة في الدولة.
على الرغم من وجود رئيس وزراء مدني حاليا في السودان، الدكتور عبدالله حمدوك، لكن لا أثر لكثير من مؤسسات الحكم المدني، فلا مجلس تشريعيا ولا محكمة دستورية ولا مجالس قضاء ونيابة ولا حتى مفوضيات رئيسة متصلة بتعزيز الديمقراطية، مثل مفوضيات الدستور، والانتخابات، والعدالة الانتقالية وغيرها.
غياب مؤسسات الحكم المدني هذه يجعل الفرق بين حكم ”مدني“ و ”عسكري“ ينحصر في الفرق بين ارتداء البدلة الرسمية و“اليونيفورم“ العسكري.
وعلى هذا النهج تتمدد حالة التسليم بالمصطلحات، فيصبح معنى ”الديمقراطية“ هو ذلك الإجراء الموسمي الذي بموجبه يذهب المواطنون إلى صناديق الاقتراع لينتخبوا النواب أو رئيس الجمهورية، وينتهي معنى الديمقراطية بإعلان نتيجة الاقتراع لتبدأ ممارسة برلمانية ودستورية تفتقد لمبادئ دولة القانون وإعلاء المؤسسية فوق الفردية.
الخطوة الأولى نحو ترسيخ الاستقرار في الدولة السودانية هي التركيز على بناء المؤسسات لا الشعارات التي تقدس المصطلحات.
تشخيص عميق ..وواقعي ..ونظيف.. ليتهم يقرأون ويفهمون..شكرا عثمان ميرغني..أحسنت.