:: مِن محن العهد السابق، بعد انفصال الجنوب بأشهر، تلقّينا دعوة لمؤتمر صحفي عقده علي عثمان محمد طه النائب الأول للمخلوع، وتوافدنا إلى مكان المؤتمر، وتسبقنا التكهُّنات.. منا مَن تكهّن بأن شكل العلاقة بين الدولتين هو موضوع المؤتمر.. ومنا من تكهّن بأن ترتيب البيت السوداني بعد انفصال الجنوب هو قضية الساعة وموضوع المؤتمر.. و.. و.. كانت التكهُّنات بحجم تحديات مَرحلة ما بعد انفصال الجنوب.. ولكن، بدأ المؤتمر وانتهى بالحديث عن دور الصندوق القومي للإسكان الشعبي في توفير المساكن للناس..!!
:: واليوم، في عهد حكومة الثورة، يبدو أنّ الحال لم يتغيّر كثيراً من حيث أولويات كبار رجال الدولة.. إذ يقول الخبر بالنص: (أعلن المدير العام للشركة العامة لمواصلات الخرطوم محمد ضياء الدين، أن رئيس الوزراء د. عبد الله حمدوك يتابع – بشكل شخصي – قضية المواصلات وشحن 1000 بص في طريقها للخرطوم للمساهمة في حل الأزمة)، وهذا يعني أن رئيس الوزراء – شخصياً – يتابع أزمة المواصلات واستيراد ألف بص.. إن كان كذلك، فمن يتابع قضايا وأزمات البلاد الكبرى..؟؟
:: وربما ليتفرّغ رئيس الوزراء فقط لقضية مواصلات الخرطوم، تاركاً قضايا البلاد وأزماتها السياسية والاقتصادية الكُبرى، يقول محمد ضياء الدين بالنص: (لذلك لا بد للدولة أن تدعم شركة المواصلات العامة وتحويلها إلى شركة قطاع عام وتحت إشراف الدولة).. وهذا ليس حلاً، بل يجب حل شركة مُواصلات ولاية الخرطوم، لتخرج الحكومة من موقف كركر)، وليتفرغ رئيس الوزراء وكل أعضاء حكومته لما هو (أهم وأكبر)..!!
:: وسردتها من قبل.. بإحدى دول العالم الثالث، زار الوزير مُستشفى الأمراض العقلية، وسأل المدير: كيف تميزون العاقل من المجنون في هذا الزحام؟، فأجابه المدير: (بسيطة، نملأ البانيو بالمياه، ونسلم كل زول هنا ملعقة وفنجان وجردل، ونُطالبهم بغرف البانيو ونقعد نراقب).. فراقت الفكرة للوزير، وسأل: (فكرة ممتازة، طبعاً العاقل منهم بيغرف البانيو بالجرادل؟)، فأجاب المدير: (لا، العاقل بيرفع سدادة البانيو)، ثم أردف سائلاً: (أها سعادتك نحجز ليك غُرفة خاصّة واللاّ تشرف العنبر العمومي؟)..!!
:: وعليه، ليست كل الأزمات (مُعقّدة)، ولكن بعض العقول تُدمن تعقيد الأزمات.. وعلى سبيل المثال الراهن، أزمة مواصلات بالخرطوم، فهي (غير مُعقّدة)، ولكن العقول المُكلّفة بحل هذه الأزمة لا تفكر إلا في تعقيدها، وذلك بتجريب الحلول غير المنطقية، ومنها تأسيس شركة حكومية ولائية، ثم تحويل هذه الشركة إلى شركة قطاع عام تحت إشراف الحكومة، كما يقترح ضياء الدين..!!
:: كل هذه البصات الحكومية، بما فيها الألف بص التي يتابع استيرادها (حمدوك شخصياً)، ما هي إلا نوعٌ من تفريغ الحوض بالجرادل، بدلاً من (رفع السدادة).. لحين إنشاء (مترو أنفاق) وغيره من الحلول الجذرية والحضارية التي تشبه (وظائف الحكومة).. بالبلد رجال أعمال ومُغتربون قادرون على استيراد وتشغيل (المركبات العامة)، وهذا ما يُسمى بالاستثمار في مجال النقل، وبهذا النوع من الاستثمار يستقر المُجتمع اقتصادياً و(ترتاح الحكومة) من جلب البصات ومنافسة (الجلابة)..؟!
:: وعليه، حسب قانون المحاصصة، ما لم تكن إدارة قطاع النقل بالخرطوم من نصيب حزب البعث الحاكم، فالأفضل في انسياب حركة النقل بلا أزمات هو أن تكتفي الحكومة بالمواصفة والرقابة والتنظيم والبنى التحتية، ثم تفتح أبواب الاستثمار في النقل للشركات، الأجنبية منها والوطنية.. كما يزيد الإنتاج كلما تحرّرت وسائله ومصادره من قيود الحكومة، فإن الخدمات أيضاً لا تتطوّر ما لم تبعد عن تلك القيود..!!
صحيفة الصيحة