السودان اليوم:
أنا لا أفهم حقيقةً العلاقة بين (الحكيم) وهو المساعد الطبي ومجتمع القرية حتى أواخر سبعينيات القرن الماضي وما نُشاهده من حالة النخبوية التي يُحاول أطباء اليوم أن يعيشوها فهل هذه من تلك العادات المتوارثة و المخزونة فى عقلية طفل الأمس طبيب اليوم أم أن المجتمع هو ما ساهم فى رسم الصورة الزاهية للطبيب حتى أصبحت أغنية كل أم لوليدها تهدهده بها حتى ينام أن يصبح لها دكتور وأظن فى أغاني البنات النصيب الأفر للأطباء وإن جاءت حكراً عليهم دون زميلائهم من الطبيبات ، إذا دعنا عزيزي القارئ نعود للوراء قليلاً أيام كان (الحكيم) هو من يُقدم فى مجالس القرية ويجلس على صدر الصينية الدسمة دون الآخرين واذا جاءاً رافعاً للفاتحة فى عزاءً تصايح معه الجميع (الفاتحة الفاتحة) وكٌلُ يخطو خطوتين نحوه . و الحكيم غالباً ما يكون غريباً عن القرية أتت به المعايش ، ولن أنسي (بشفخانة) العيكورة محمد سعيد الحكيم رجلٌ ضخم الجُثّة يرتدى بنطلون أبوحمالات يتدلى جيب قميصة مُثقلا بكيس (التنمباك) وتعلو رأسه الطاقية وينتعلُ المركوب إن أتاك حاملاً حُقنة الملاريا (تكوش) رجلاهُ على البلاط بين غلاية الحُقن وحيثُ تستلقى أنت على الطاولة تتمنى أن تبلعك الأرض ألف مرة قبل أن ينتهى صوت مركوبه بجوارك ، حُقنة مُخيفة تُعقم ليستخدمُها كُلّ المرضى وعلبتين من السفوفة والسلفا هى دواء لكل أمراضنا حينذاك (أفتح خشمَك ومِدّ لسانك وقوُل عَاعْ) هى كُل أجهز المُختبر والألتراساوند والأشعة المقطعية فى ذلك الزمن . كان كل من له ديك سمين وبيض وجوز حمام يذهب به للحكيم ليشتريه لا أدري لماذا؟ هل كانت تعافه نُفُوس أهلنا أم لأن تلك الأطعمة لم تكُن شيئاً من نمطهم الغذائئ لذا يُبيعونها للغُرباء بالقرية الحكيم والمُدرسين حقيقة لا أفهم لماذا كانوا يُبيعون كل هذه الطيبات ولا يأكُلونها .
نأتي لمفهوم تقدير (الحكيم) فى المُجتمع السوداني (برأيي) هو أحد حسنات الإستعمار في غرس حب التعليم في نفوس أجدادنا فقد كان يؤدي هذه المهنة الخواجات أو الناس ذوي البشرة البيضاء من الانجليز والمصريين والاتراك عموماً فغرست هذه المهنة نوعاً من المهابة فى نفوس أهلنا فحرصوا على تعليم أبنائهم . وبعد السودنة نال الرعيل الأول ذات المُميزات والتقدير كونها مهنة العُظماء فإزداد شأنها و غنّت لها عائشة الفلاتية لها وللهندسة (يجوا عايدين أطباء ومهندسين) وعندما بدأ خريجو كلية غردون من الأطباء السودانيين الأوائل يدخلون الحياة العملية زها الناسُ فخراً بأبنائهم (الدكاترة) فهُنا علا شأن هذه المهنة على ما سواها حتى أصبحت أمنية المُجتمع بكاملة ، يقول الدكتور عبد الله الطيب فى كتابة (حقيبة الذكريات) أنه كان مُسافراً ذات مرة عبر الباخرة الى مدينة (جوبا) فسعد الناس الذين يعرفون برامجه عبر المذياع فتحلقوا حوله يحدثهم عن التفسير والأدب ، يقول وفى تلك الليلة مرض أحد الرُكاب فقيل لهم أن بالباخرة دكتور قال فسمعتُ أحد من يحضرون دروسى يقول لهم (ياخى ده دكتور ساكت) فهذه الحادثه تُلخص لنا نظرة المُجتمع لمهنة الطبيب دون الدُخُول فى تفاصيل مُستوي تعليم القائل . وما زالت نظرة الإحترام والتقدير التى يُحظي بها الطبيب مُجتمعياً هى السائدة الى يومنا هذا رغم قناعتي الشخصية أن مُهندسى تقانة المعلومات وخُبراء البورصات والطيارين هم المتربعين الحقيقيين على سوق العمل والثراء والإحترام على حدٍ سواء ويستحقوا أن يُغنوا لهم (يا الماشى لي باريس) أو غيرها من مفردات التمجيد الحديثة . ذات مرة كنتُ أتحدثُ مع صديق مُتواضع التعليم لدية (حساسية) ضد الأطباء فحاولت أن أغير مفهومة وأحدثه عن أهمية الطبيب فى المجتمع وأنه حامى صحة الإنسان وبالتالى فهو رأس مال الوطن بتقديمه لخدماته الصحية لإنسانٍ معافًاً مُنتجاً وطفقتُ أمتدح له قبيلة الأطباء . فقال لى إنه مُدرك لذلك و لكن (حشرُهُم) لكلمات (الانجليزي) أثناء الكلام فى المُناسبات الإجتماعية هذا التصرف يقول (بيأكلا معاهو جنبة) هكذا قالها لي . فأرجو من أخواننا الدكاترة أن يُراعُوا لمثل صديقى هذا إذا إلتقوا بأمثاله فى أفراحهم وأتراحهم . و أن يحدثوا الناس بقدر عقولهم و أن يُبسِطوا المُفردات فكلٌ فى مجاله (عوّام) و إن كُنت أتفق مع صديقى جزئياً فى حال إذا ما إلتقى طبيبان (من النوع أبوكديس) وليس كل الاطباء كذلك فى مناسبة إجتماعية وكانوا أعضاء فى جمعية (الشُو) فأعان اللهُ السادة المُستمعين علي (البيشن) و (الكلنك) و (الكُوما).
أحد الظُرفاء قال لي أن أكثر مَنْ (يُجهجه) الدكاترة هم الميكانيكية إذا ذهبوا لأصلاح عرباتهم يقول أنه لم يراهُم مساكين جاحظة عيونهم يبلعُون ريقهم فى صُعُوبة إلاّ وهم يستلمون (روشتة) الميكانيكي بقطع الغيار المطلوبة ، فلا هُم يستطيعون النقاش ولا هُم يفهمُون فى (الاتُوميزرات) و (البخْاخَات) وجلب الشاسيه ولا هُنالك بديل بالصيدلية .
The post فلهمة الدكاترة قال (بتأكُل معاهُو جنّبة).. بقلم العيكورة appeared first on السودان اليوم.