وُصفت بأنها امرأة حديدية يسكنها حُب الوطن والوطنية إن وُزِّعت على السودانيين لكفتهم، طوّعت الظروف برحيل والدتها مبكراً “نفيسة سالم عمر” التي تعتبر من أوائل المعلمات اللاتي تخرجن في كلية المعلمات، وكانت لها بصمات واضحة في حياتنا، فكانت فنانة تشكيلية عرضت رسوماتها في لندن مع “شفيق شوقي”، ومن زميلاتها “نفيسة أحمد الأمين”، “عمائم آدم”، “ثريا أمبابي”، “فاطمة طالب” و”السريرة مكي”.. ووقفت إلى جانب والدها في عمله السياسي.. تقول عنها نجوى، كانت تجهز المنزل لاجتماعاته وتكتب التقارير بخط يدها، وكان لها دور مع الوالد.
وبرغم أنها من أسرة متدينة وصوفية، إلا أنها لم تجد حرجاً ان تخدم مصلحة بلدها وإن كان الأمر يتعلق بالتطبيع مع إسرائيل.
رحلت نجوى بجسدها أخيراً عن الدنيا، ولكنها تركت قدحاً مليئاً بالحب والسلام والاستقرار، تركت حملاً ثقيلاً من الآمال والطموحات والتضحيات والإشراقات التي لم تكتمل، كان تحلم بغد أفضل لوطن يسع للجميع لتضع الأقدار حداً، حيث فجع كل سوداني برحيلها، متأثرة بإصابتها بفيروس كورونا، وفشلت دولة اسرائيل في إنقاذ حياتها بواسطة طائرة حملت طاقماً طبياً وأدوية بمعية دبلوماسي إسرائيلي رفيع لم يكشف عن اسمه حطت بمطار الخرطوم، لأنها تعلم اي اسرائيل مكانة واهمية نجوى ودورها في التطبيع مع السودان ودول أفريقيا، لذلك ليس من المستغرب ان يناقش رئيس الوزراء الإسرائيلى نتنياهو في اجتماع ارسال طاقم طبي لانقاذ نجوى ربما كانت تلك فرصة كي يتبادل الطرفان مساعي التطبيع بين البلدين.
كنوز النفس
تقول نجوى قدح الدم عن نفسها بأنها من اسرة انصارية، وان والدها الذي امتهن السياسة، أسس مع آخرين حزب الأشقاء ولكنها ورغم ذلك رفضت الانتماء لاي منهما لانها كما ترى في نفسها يسكنها الوطن، حينما قالت سأجمع بين الاثنين وكل ما يفيد وطني
سيرة وسريرة
تحمل نجوى قدح الدم، سيرة وسريرة واسعة غائبة عن الكثيرين، وهي المهندسة السودانية التي عملت في وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا».. أم درمانية صميمة المنشأ، والدها أحد مؤسسي الحركة الوطنية السودانية وسكرتير نادي الخريجين لأكثر من «16» عامًا ومؤسس حزب الأشقاء حتى نهاية الاستقلال.
تلقّت الأستاذة نجوى، مراحلها التعليمية بأم درمان، ثم التحقت بجامعة الخرطوم كلية الهندسة الميكانيكية، وعملت أستاذة بالجامعة ونالت الماجستير في الطاقات الجديدة والمتجددة من جامعة الخرطوم، ثم انتقلت للعمل في وكالة ناسا الأمريكية بفلوريدا عام «1991م»، ثم انتقلت منها إلى المعهد العالمي لدراسات الفضاء بمدريد، ثم جاءت إلى ألمانيا وحازت على الماجستير في التنمية المستدامة ومشكلات البيئة وأيضاً على الدكتوراة في نفس التخصص، التحقت بمنظمة الأمم المتحدة في مكتبها الرئيسي في فيينا.
بعد تخرجها، عملت مساعد تدريس بالجامعة، ثم بدأت بتحضير الماجستير وكان عن الطاقات الجديدة والمتجددة. وأُقيم في تلك الفترة مؤتمر في الأردن عن الطاقات الجديدة والمتجددة، وقدَّمت فيه ورقة أثارت انتباه الكثيرين، والغريب في الأمر أن مدير وكالة «ناسا» في قسم الطاقات الجديدة والمتجددة في الطاقة الشمسية كان موجوداً، وهو الذي جاء ليتعرف عليهاَّ وسألها كيف أنتِ كـامرأة درستِ الهندسة الميكانيكية، وكيف التحقتِ بالماجستير؟ وعرض عليهاَّ أن تلتحق بالوكالة لأخذ فكرة عملية، ومن ثم قدَّمت له اوراقها مباشرة، وبعد شهرين وصلها خطاب من الوكالة بأنه يمكن لها أن تعمل في مجال الشرائح الدقيقة للطاقة المتجددة التي تُستعمل في المركبات الفضائية، وذهبتُ إلى فلوريدا، وبعد شهرين انتقلت إلى المعهد العالمي لأبحاث الفضاء في مدريد وهو فرع من «ناسا» يسمى «انتا».
تركت العمل في ناسا لرغبتها الكبيرة في الحصول على الدكتوراة، حيث أبلغت الوكالة أنها تريد أن تحضِّر الدكتوراة، وافقوا وبعثوها لجامعة في مدريد، لكن والدها كان يرى أن إسبانيا بلد الفلسفة والفن والعلم الأدبي ويجب أن تحضِّر الدكتوراة في ألمانيا، وفي ذلك الوقت جاءتها منحة ماجستير من ألمانيا وقررت ترك العمل في الوكالة وذهبتُ إلى ألمانيا.
كانت المراة الوحيدة والسودانية في القسم تعمل في تركيب شرائح السلكون الرقيقة في أطراف المركبات الفضائية، حيث تركت التجربة بناسا أثراً كبيراً بداخلها لأنها أول تجربة خارج الإطار السوداني والعربي، بجانب أنها أعطتها خبرة ورؤية عملية للتعامل مع الأوروبيين والأمريكان، حيث تعلمت الجدية والالتزام بالعمل والدقة والتنظيم والتحقق من البحث العلمي والمثابرة والصبر على النتائج، كما كانت لها بصمات كبيرة حيث وضعتني على المسار العلمي والتوضيحي.
وعن عودتها لناسا في المستقبل تقول:
(توجُّهي الآن اختلف، وإذا رجعتُ إلى الوكالة فسأعمل في مجال إرساء دعائم السلام والتنمية مع الاهتمام بدور المرأة في السلام والتنمية، وسأكرّس جهودي لتحضير الأجيال القادمة لما يأتي، وأن الصراع أصبح صراع تقارب وموارد اقتصادية وطبيعية وأديان، ولا بد أن نقوم بمهمتنا أبناء لهذا البلد والقارة السمراء).
مهابة ومجابهة
الرئيس اليوغندي موسيفيني يكن لها تقديرا كبيراً، وزارها في بيتها بحي العباسية في ام درمان، تلك الزيارة التي قدمتها للشعب السوداني ونالت الاستحسان.. استظاعت بعلاقتها بموسيفيني من فك عدد من الأسرى الذين كانوا بطرف الحركة الشعبية، مستفيدةً من علاقة موسيفيني بالحركة الشعبية في دولة الجنوب.
وقال جعفر بانقا من مجموعة “سائحون” والذي كان ضمن المفاوضين في ملف الاسرى، سألتني بشئ من اللوم عن ملف الأسرى ولم لم نشركها فيه، فاعتذرت لها بجهلنا لعلاقتها الخاصة بالرئيس موسيفيني، ولو كنا نعلم لما توسلنا إليه عبر أحد أقربائه وكاتم أسراره (كينيث) بواسطة صديق شخصي للأخ طارق المعتصم من دولة السنغال.. لقد تفاجأت وأخي طارق المعتصم يوم وجدناها تستقبلنا وترحب بنا في قصر الرئيس موسيفيني الذي دعانا للغداء معه وإخواننا الأسري وأطراف التفاوض، ثم ترافقنا هي ومدير المخابرات العامة السفير جوزيف أشويت للخرطوم بتوجيه مباشر من الرئيس موسيفيني عقب الغداء.. لقد كانت آمرة وناهية ومهابة ومجابة من جميع من بالقصر.. لقد لمسنا أبوته لها وتقديره الشخصي لها حتى على وزرائه من خلال وجبة الغداء وكلمات الشكر والاحتفاء والصور التذكارية.
نجوى قدح الدم.. سيحفظ لها التاريخ مهما قيل في حقها سلباً أو إيجاباً، أنها في زمن المتاجرة بالوطن وبيعه في سوق النخاسة العالمي والصهيونية وعملاء المخابرات العالمية عبر التقارير المضروبة والفيديوهات المفبركة.. إنها كانت مهمومة بتحسين صورة السودان في المحافل الدولية والإقليمية، خاصة مع يوغندا حتى نجحت في المصالحة التاريخية بين البشير وموسيفيني بعد سنوات من العداوة والبغضاء، بل جاءت بالرئيس موسيفيني للخرطوم مصالحاً ومتبرأ من محكمة الجنايات وداعيا الأفارقة لإدانتها والخروج منها بعد أن كان أشد الناس عداوة للبشير وأكثرهم مطالبة بتسليمه للمحكمة الجنائية..
لقد كانت بالحق زيارة لها ما بعدها والتي ردها رئيس النظام البائد بأحسن منها ليوغندا، رغم التوجس الكبير وخوف أكثر الناس أن يكون رد الزيارة شَرَكَاً للإيقاع بالبشير وتسليمه للمحكمة الجنائية.. ويقول بانقا إن هذا التصالح التاريخي بين الرئيسين هو ما شجعهم في مجموعة “السائحون” أن نتقدم للرئيس موسيفيني شخصياً برجاء إطلاق سراح إخواننا الأسرى طرف الحركة الشعبية التي تنطلق من يوغندا عسكرياً وسياسياً وإعلامياً، واقسم بانقا بالقول والله ما خيب ظننا في عملية امتدت لأكثر من (6) أشهر وسط تكتم شديد مع تعرضها لانتكاسات عديدة كادت تعصف بها لولا حرصه وعزمه على إنجازها.. وترحم بانقا على، نجوى قدح الدم، لحبها لوطنها ومساعيها الحثيثة مع كثير من الدول والمؤسسات العالمية للدفاع عنه وتجسير علاقاته مع الآخرين سواء اختلف البعض معها أو اتفق، إلا أنها كانت وطنية غير ملتزمة بحزب مع حشمة في المظهر وقوة في الحجة وصدق في التوجه لخدمة بلدها.
شاهد على العصر
وشهد شاهد من أهله، حينما كانت العلاقات متأزمة بين النظام السابق ودول الجوار والحرب في جنوب السودان تشتد أوراها، كانت قدح الدم تعمل على إغاثة النازحين واللاجئين في دولة يوغندا، ولعل في ذلك الوقت العلاقات بين البلدين في أسوأ حالاتها، وكان الرئيس موسيفيني يسعى من خلال دعم التمرد في جنوب السودان للإطاحة بالنظام في الخرطوم، رغم تلك الظروف لم تمنع نجوى قدح الدم ان تلعب دوراً لصالح وطنها، وهنا شهد لها القيادي الإسلامي د. أمين حسن عمر، الذي قال رحم الله السفيرة المستشارة نجوى قدح الدم، فقد كان قلبها محباً لبلدها، وكانت عوناً كبيراً لنا في تحريك عجلة التفاوض والسلام مرة بعد مرة بعد ان تعثر وتوقف، وكانت ذات دور ملحوظ في تحسين علاقات السودان مع يوغندا وأكثر من بلد أفريقي، فقد كانت تعمل مستشارة دبلوماسية لدى الرئيس موسيفيني.
قيل عنها كلام كثير مؤخراً غالبه أقاويل ظن، وأغلبه سوء ظن والظن لا يغني عن الحق شيئاً، لكننا عهدنا منها خُلُقاً حسناً وأدباً جمّاً وحباً للسودان لا ينكره إلا مخاصم مكابر.
ألا رحمها الله وأنزلها منازل أهل رحمته وغفرانه ولا حول لا قوة إلا بالله.. (إنا لله وإنا إليه راجعون).
مواقف في الغابة
حين كان جيش الرب اليوغندي بقيادة (الأب جيكوني) يشن هجماته على حكومة يوغندا من جنوب السودان بمثل ما كان يفعل جون قرنق ضد السودان منطلقاً من شمال يوغندا، يقول المسؤول في “سائحون” جعفر بانقا: يومها كانت قبيلة الآشولي الحدودية (سودانية ؤ-يوغندية مسالمة) تدفع ثمناً غالياً نتيجة تلك النزاعات.. في تلك الأيام كانت نجوى قدح الدم عضواً فاعلا في إحدى المنظمات الغربية التي تعمل وسط معسكرات النازحين بشمال يوغندا، بهمة الشباب الوثاب وروح الدين الإسلامي (الصدق والإخلاص والتجرد)، ما جعلها محبوبة وسط النازحين وموثوقة لدى المنظمة، ومرصودة لدى المخابرات اليوغندية، وعلامة تعجب كبيرة لدى الرئيس اليوغندي يوري موسيفيني في ظل الحرب والتوتر بين السودان ويوغندا.. لكنه حين وصل الى قناعة أنها لا تمثل إلا منظمتها الغربية ولا تعمل إلا لوجه الله والإنسانية وليس لديها أي ارتباط سياسي أو أمني بالسودان.. عندها اتخذها ابنة ومستشارة له.. ووجّه كل وزاراته وإداراته بدعمها بلا حدود.
من جانبها، لم تخيب ظنه خاصة حين تولت ملف الإيدز الذي فتك بيوغندا جاعلاً منها أكبر دولة موبوءة في العالم، لكن بفضل الله وبرحمته وحرصها وعلاقاتها الممتدة مع كثير من المنظمات العالمية، استطاعت نجوى الخروج بيوغندا معافاة من ذلك الداء اللعين في بضع سنين.. وقال بانقا: هذه المعلومات استقيتها منها مباشرة حين كانت تجلس بجانبي ونحن في رحلة العودة بإخواننا الأسرى من يوغندا الى السودان عندما سألتها عن سر علاقتها القوي.
للقصة بقية
عندما سئُلت عن اسباب تركتهاِ ألمانيا؟ في حوار مع صحيفة “المجهر”، قالت (لأنني وجدت فرصة في جامعة زيمبابوي، فبدأت أدرس فيها وأنشئ مركزا للدراسات العليا لنيل درجة الماجستير، وأقمت علاقات مع جامعة الخرطوم وأحضرت عدداً من الأساتذة للتدريس فيها)، وكشفت في نفس الوقت لأول مرة عن قصة زواجها من الرجل الألماني حيث قالت نعم. وهو رجل مسلم، واضافت: بالتأكيد، فأنا مسلمة وسليلة أسرة دينية، فلا يمكن أن أرتبط بشخص غير مسلم. اما عن أسرار معرفتها به، روت بأنّها التقت به أول مرة في الأردن، ووقتها كان مديراً للسنتر الأول للطاقات الجديدة والمتجددة، وقدمت له أوراقي فرفض، فزعلت جداً كيف يرفض طلبي وأنا أول دفعتي وحاصلة على درجة الماجستير. ولانها قوية بالحجة والإرادة والثقة بالنفس، لم تقتنع بأسباب الرفض، وقالت ذهبت للوالد محتجة وقلت له لازم نتخطاه، وبالفعل كتبنا خطاباً لمدير الجامعة وأرسلت الخطاب إلى ألمانيا وخلال شهرين جاءتني فرصة العمل مع (ناسا)، فسافرت إلى مدريد، بعدها اتصل عليّ شخص عزيز من جامعة الخرطوم وقال لي لديك خطابات مرمية بالجامعة لها فترة وفي واحد فيه قبول من ألمانيا، وقتها بدأت العمل مع (ناسا)، فاتصلت على ألمانيا تلفونياً وقلت لهم الفرصة التي منحتموني إياها للدراسة أرغب في تحويلها لآخر في السودان ولكنهم رفضوا بحجة انها مخصصة ولا يمكن ان تحول، وكشفت لأول مرة عن الشخص الذي اختصته بوصف العزيز واردة ان تحول لها المنحة، ألا وهي صديقتها بالجامعة أميمة دفع الله الحاج يوسف، درست معها بكلية الهندسة ميكانيكا، وكانت لها الرغبة في مواصلة دراساتها العليا، حيث قالت: رفضوا بحجة أن المنحة لا تُحوّل لشخص آخر.
وشرحت نجوى، خطوات التعرف والزواج من الشاب الألماني، حيث قالت في المقابلة، تعرف على والدي ونحن في اسبانيا، وأصر والدي أن ينزل معنا بالشقة فربطت علاقة بينه والوالد، وأذكر في اليوم الذي كان فيه الوالد مغادراً إلى السودان ووقتها كان طول اليوم على “المصلاية”، في الصباح دخل عليه “أحمد نومان” وهو الاسم الحقيقي له وأصبح فيما بعد “أحمد نعمان”.. والدي في ذلك اليوم كان يدعو له، كان يقول اللهم أجعله ابناً صالحاً لي في دنياي ومعاشي وعاقبة أمري.. اللهم أعز به الإسلام وأعز الاسلام به، في تلك اللحظة دخل عليه “نومان” وسألني ماذا يقول أبوك، قلت: ارفع يديك وقل آمين وفعل حسب ما قلت له. تلك العلاقة جعلته يزور السودان كل فترة، وخلال زيارته كان يذهب إلى الوالد بالمنزل، فبدأ الوالد يشرح له الإسلام وبدأ يمشي معه إلى الحسن الإدريسي وحمد النيل، ثم بدأ يتعرف على تقاليدنا وتراثنا. واكدت أن لوالدها الفضل الكبير في اعتناق زوجها الإسلام.
صلاح مختار
صحيفة الصيحة