الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فقد نظرت في شخصية الشيخ محمد أحمد حسن لما بلغني خبر وفاته، وقلت في نفسي: لو أراد هذا الشيخ من عمله الإعلامي مجرد الذيوع والشهرة والنجومية لاتخذ لنفسه اسمًا فنيًا مثل: محمد أحمد كجيك.
اسمه بالكامل هو محمد أحمد حسن محمد علي محمد خير كجيك.
قابلته أول مرَّة مع الإخوة يوسف وجعفر اسماعيل من أهل (القولد شبعانة)، فأدركت من تواضعه وتلقائيته سر القبول الذي وجده في الإعلام.
كان دخوله إلى التلفزيون دخولاً غير مخطط، فقد تصادف أن مذيع التلفزيون اسحق عثمان كان يصلي الجمعة في مسجدٍ بحي الصحافة، فأقترح تقديمه في التلفزيون عبر تذكرة دينية.
يحكي الشيخ هذه الواقعة للأستاذ عمر الجزلي معلقاً على ما وصله من اقتراح الحديث في التلفزيون: “أنا زولاً بسيط قدر قدرتي”!
ولما نجحت الحلقة؛ استمر في تقديم برنامجه (الدين النصيحة) سنوات عدة. واتصل به الأستاذ أحمد عبد المجيد وبدأ معه تسجيل برنامج (رأي الدين) في الإذاعة. وأظن أنه ـ أي الشيخ محمد أحمد ـ هو من اقترح التعديل الموفق لاسم البرنامج ليكون (رأي من الدين).
وكان انتشار الشيخ بعد ذلك في عدد من القنوات الفضائية والإذاعات مثل إذاعة الفرقان وفضائية الشروق وطيبة وغيرها.
ومن خلال الفضائية السودانية عرفه الجمهور خارج السودان، فمما أذكره في منتصف التسعينيات أن جاءني أبوبكر عبد الجليل أحد الإخوة العاملين في السعودية يطلب مني أن أوصل مبلغًا من المال للشيخ محمد أحمد أرسله إليه أحد مشاهدي التلفزيون من الإخوة السعوديين، ويطلب من الشيخ توزيعه على المحتاجين.
اتصلت بالشيخ كي أعرف الطريق إلى منزله فأجابني: أنا أصل إليك لا تتعب نفسك، ووجدته بعد وقت قصير معي.
سلمته المبلغ، فكتب فورًا رسالة إلى مرسل المبلغ يخبر بتسلمه له، والطريف في الأمر أنه يستأذنه في خمسين جنيه يحتاج إليه… مبلغ زهيد!
سأله عمر الجزلي في مقابلة تلفزيونية:
ـ كيف استطاع أن يحقق هذا النجاح حتى صار وجهاً إعلاميًا مرموقًا يشاهده الكبير والصغير؛ المتعلم وغير المتعلم والمثقف وغير المثقف، الرجل والمرأة؟
فيجيب بطريقته تلك:
ـ “إنها هبة من الله… الكلام بيطلع كدا بس. وهو بسبب دعاء الوالد الذي كان محبًا للدين، وكان يحرص على الاستماع لشيخ دين يمر بقريتهم. الوالد سأل الله تعالى أن يجعل ابنه محمدًا عالمًا مثل هذا الشيخ”.
والواقع أن البحث في أسباب هذا النجاح، يستدعي تحليل شخصية الشيخ محمد أحمد التي تمثلت فيها وفي خطابه بعض الصفات التي تستحق المناقشة:
فمنها أسلوب الشيخ في الحديث؛ كلام تلقائي لا تكلف فيه، بلهجة أهل الشمال بمنطقة التمازج بين الدناقلة والبديرية والشايقية. لم تؤثر في لسانه دراسته الثانوية التجارية في مصر ولا تلقيه العلوم الدينية في بعض المعاهد الدينية المصرية.
بل لم يتأثر لسانه بسنوات خدمته التي بلغت أكثر من ربع قرن في السلك الكتابي متنقلاً بين مدن السودان: الدامر، القضارف، كسلا، توريت، المناقل، الخرطوم.
ولا شك أن حديثه الذي تميز بالهدوء والبساطة، يناسب طبيعة الحديث الإذاعي أو التلفزيوني. فهو يتصف بنبرة خاصة على غير عادة بعض علماء الدين في رفع الأصوات، بل الصراخ والمبالغة في الأداء الصوتي.
والانفعال في الخطاب الديني مطلوب، لكن الانفعال الطبيعي الذي لا يعصف بسكينة النفس.
ولا ريب عندي أن منطلق هذا الشيخ في العمل الإعلامي كان عن رغبة صادقة في الإصلاح والإرشاد. لم تحركه ميول (إسلام السوق والبزنس) التي ظهرت مع منتجات الإعلام الديني في الفضائيات ومواقع الإعلام الجديد. والدليل على ذلك أنه كان يبذل غالب نشاطه دون مقابل مادي.
إن تربية الشيخ الريفية، زيادة على ما وجده في عمله بالسلك الكتابي العام في الجيش، منحته صفات الانضباط والسماحة. وفي سجل خدمته أنه ذهب منقولاً إلى رئاسة وزارة الري في الخرطوم، وليجد نفسه منقولاً مرة أخرى إلى ري مدني، ومن هناك يؤمر بالانتقال إلى المناقل، وفي المناقل يرسلونه إلى القنطرة 131، وهو ينفذ كل هذه التنقلات بأريحية وطيب نفس.
هذه صفات جديرة بأن تجعله قادرًا على التعاون المستمر مع أجهزة الإعلام الحكومية، بالذات في بلادنا التي لا يصبر عليها إلا من أوتي حظًا كبيرًا من الصبر الجميل.
ومن الممكن فهم النجاح الإعلامي للشيخ محمد أحمد من زاوية أخرى أنه غير منتمٍ لحزب أو طائفة أو جماعة. وجمهور المسلمين في السودان وغيره، لم يعد رهين هذا الانتماء أو ذاك، بل صار مزاجه أقرب إلى الانتماء العام للمسلمين والابتعاد من التنظيمات والجماعات والفرق.
وهذه ملاحظة انتبه لها من سنوات أستاذنا الدكتور سيد محمد ساداتي الشنقيطي الذي تساءل غير مرة عن ظاهرة احتفاء الجمهور العام بوسائل الإعلام واستفتاء نجومها والثقة في العلماء الذين يظهرون فيها، أكثر من التوجه لزعماء الدين ومشايخ الطريق والطائفة.
وقد اتصف الشيخ محمد بالتزام التصور الإسلامي الوسطي، والعقيدة السليمة، والعبادة الموافقة للسنة، والموقف المعتدل في المسائل الخلافية.
سمعته قبل أيام يجيب عن سؤال بخصوص قفل المساجد ومنع صلاة الجمعة والجماعة: “إذا قالت لنا وزارة الصحة ذلك، فنسمع كلامهم فالناس ديل أدرى بالمرض ده. ربنا قال: “وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم”، لكن ما نهجر المساجد… يظل الأذان قائم، وتقام فيه الصلوات حتى لو بعدد قليل”.
في حوار أجراه عمر عبد السيد سأله:
ـ ماذا أضاف لك الإعلام وماذا خصم منك؟
فأجاب:
ـ الإعلام أضاف لي أشياء كثيرة وقد تكون خصماً في نفس الوقت! وأكثر ما أضاف (الشهرة) وحب الناس، وكثيراً ما أذهب للوزارات والأماكن العامة وأجد الترحيب والتقدير، حتى القصر الجمهوري دخلته، وفي أحايين كثيرة الطبيب يرفض استلام (حق الكشف) وفوائد أخرى كثيرة. ومن الأشياء التي أعتبرها خصماً بعض التكاليف الشاقة وربما تكون فوق الطاقة. والمجال الإعلامي لم يخصم مني شيئاً، والعلم يزيد بكثرة الإنفاق منه، وكلما أقدم محاضرة أو درس أو فتوى أستفيد وأكون أضفت شيئاً جديداً.
ختامًا أقترح على كليات الدعوة والإعلام أن توجه طلابها لعمل دراساتهم في الماجستير والدكتوراة لتحليل ودراسة هذه الشخصية بأبعادها الإعلامية والدعوية التي بدأت بداية متواضعة بتقديم دقائق من التذكرة الدينية في مسجد توريت، وانتهت إلى تراث ضخم من العمل الإعلامي والدعوي، استحق به نيل الدكتوراة الفخرية من جامعة كرري عام 2012م.
رحمه الله تعالى وأحسن إليه.
دكتور عثمان أبوزيد
مكة المكرمة