الانتباهة اون لاين موقع اخباري شامل
لا أظن أن أمي كانت تحرص علي إعداد شيئاً بإتقان صبيحة يوم عيد الفطر كحرصِها على إعداد فطور والدها ، عادة درجت عليها منذ أن أصبحتُ بإمكاني حَملُ الصينية على رأسى والذهابُ بها من فريقنا الى حيث منزل والدُها (حَقّار) بفريق قِدّام وقِدام هذه (بكسر القاف وتسْكين النون) كلمة دارجة يُقصد بها البيوت شرق القرية الأقربُ الى الغابة والنيل وفريق (ورا) هى البُيُوت غرب القرية المُتاخمة لشارع الخرطوم مدني فهكذا وجدنا (العيكورة) تُسمي بالفُرقان فريق العرب فريق العلقماب فريق طُوال ، فريق البلولاب والسنيطاب وعيال أولاد حاج عُمر وهكذا ولم نستخدم كلمة (حيّ) إلاّ لحي المرابيع الحديث نوعاً ما جنوب الحِلّة غير ذلك يلجأ أهلُ القرية كسائر أهل السودان لإستخدام كلمة (ناس) يقصدُون بها العشيرة والأسرة المُمتدة فمثلاً نقُولُ ناس ود عشرين و ناس ود خوجلي وناس ود حاج البشير و ناس ود المنصور وناس الماحي وأولاد العوض و ناس الدرديري وأولاد البشير ود الفاضِل وهكذا هى مُسميات الأُسر ونقصُد بها موطن الاسرة وجُغرافيتها داخل الحِلّة و يكفى أن تطلُب من أى شافع أن يدُلُك على بيت (ناس فُلان) وستصل مُبتغاك فكُلُهُم أهل .
نعُودُ لصباح عيد الفطر لا أظُن أن نساء القرية كُنْ ينُمنْ بعد صلاة الفجر في سبعينيات القرن الماضى ولا حتى في الثمانينيات وقد يكُونُ ذلك لايامٍ عديدة سابقة للعيد ، فيتم طلاء البيوت بالجير وبعض بُيُوت الجالوص تُدهن بخلطة بلدية يصنعونها من القُوز والرمل وطين البحر فتضفى جمالاً وعبقاً رائعاً يفوحُ من الحيطان وتُفرش رمال النيل الناعمة داخل الحيشان وتشتري النسوة الملايات ويخبُزنْ الكعك منذ وقتٍ باكرٍ ، صلاةُ العيد غالباً ما يُؤخر وقتها بعكس المُدُن لعل ذلك مُرعاةً أن ينال الجميع فضلها أو لربما لإتاحة الوقتُ الكافي ليتجهز الناسُ للصلاة وأغلب ظني هو ذاك فأغلب المنازل حينها كان بها (حَمّام) واحد مما يُحدثُ نوعاً التكدُسْ بين الكبار والجُهّال لذا يُعَمدُ إمامُ المسْجد الشيخ محمد ود حاج عبد الرحمن وكان رجلاً فقيهاً ورعاً الى تأخير الصلاة قليلاً حتي يُدركُها الجميع . لم يتغير شيئاً حتى يومنا هذا فالصلاةُ بالجامع العتيق شرق القرية ومدحة السفينة للشريف يوسف الهندي كان يؤديها أخوّالُ الشريف الصديق الهندي ، حسن و الخليفة وأحمد أبناء عباس ود الحاج ومعهم السمانى ود أحمد المنصور ومنصور ود كبريت والجيلاني ود السعيد ونفرٌ من الرجال كانت المشّية الهادئة على الأيقاع الصَوتى بلا طار ولا نَوَبَه هى (المَوُوُد) الذي يضبطُ به الخليفة اللّحْن فيجذبنا نحنُ الصغار لنتبعهُم حتي ديوان الشريف حيث يُكملُون المدّحة و التهاني والافطار وننصرفُ نحنُ الصغار الى أهالينا فرحين نُحدثهُم بأننا شُفنا العيد فى ديوان الشريف . ما أن أصل الى المنزل إلا وأجد أمي تنظرُني مُعاتبةً أنني تأخرتُ على فطُور جدي ولا أظن أنها كانت تمنحني فرصة لأسلّم على إخوانى الصغار إلا وترفع الصينية على رأسي توصينى أن أنتبه أثناء السير لم يُكن بيت جدي قريباً على قُوة إحتمالى وجسمى النحيل فكان علىّ أن أعبر مسافة نصف ساعة مُروراً ببيت عبد الله ود زورق ومَحمُود ود الطيب وفضل الله (ريري) وأسفل شجرة أولاد العوض حيثُ تجلس حاجة حواء بائعة الفول والتسالى ثم أمام ديوان ود الطيب قبل أن أنعطفُ يساراً لأدخُل زُقاق ضيق قُبيل دُكان مَحمُود ود صالح عابراً شرق بيت آمنه بت أحمد يُقالُ لها (الصَيدة) وبيت خُلدى بت منصور و شقيقها يوسف كانا مُتلاصقين يُقابلهما باب أختهما بتول والدة (الجَنَا علي) ثم المرور بزريبة حُمار أحمد ود حمد النيل الي أن أصل ديوان جدنا (حَقّار) حيثُ شجرة النيمة تُدثر الديوان مِنْ علٍ فى منظرٍ مُدهش لأجدهم غالباً قد بدأوا الإفطار . كُلّ الصواني كانت صُورة من الأخري العصيدة مُلاح التقلية أو النعيمية مع الشعيرية والسُكْسُكانية لا أظُن هُنالك بعدها شيئاً يُضاف سوي الشاهي والقهوة بعد الافطار أعيّد على جدِي مُصافحاً و أخوالى الطيب وعلى والبشير وأبنائهم قبل أن أدخل على حبوبتنا (بت المني) . ولن أنسي العيدية التي كانوا يغمُرونني بها فكنتُ أري فلوساً لا أراها طيلة العام وكان للخال الطيب القدح المُعلي فقد كان رجُلاً ميسُوراً حنيناً كسيفُ القلبِ قريبُ الدمع يُسعده أن يمشى بين الناس ثقيلُ الجيب مُنفقاً لا أذكر أنه كان يُحيّنى إلاّ مُعانقاً بالحُضْنِ والمِزاح . بعدها أعودُ بالمواعين مُثقل الجيب فرحاً أحمل عطايا جدنا (حَقّار) لإخواني الصغار أعطى فلانٌ كذا وفلانٌ كذا كُلها بالعُملة الفِضّية من الريال والشلن والقرش النحاسي وكان لها طعمٌ وقيمة عظيمة لا تُماثلُها ملايين اليوم فى البركة .
الأبوابُ كُلّها مُشرعة يُعيّدُ الناسُ على بعضهم البعض يتصافحُون يتعافوُن يُطاردونك بالحلوى والكعك وكبابى العصير والدعوات الطيبة يتجمعون دائماً عند كبارهم ومرضاهُم ومَنْ فُجع فى عزيزٍ . لا بغضاء بينهُم ولا شحناء بلدةٌ طيبةٌ وربٌ غفُور أزقةٌ خضراء تكسُوها أزاهيرٌ (السنمكا) والحشائشُ . هادئةٌ لم تعرفُ يومها الكهرباء والثلّاجات ولم تُلوثها عوادمُ السيارات فكلها صفاءٌ وهواءٌ طلقٌ و ماءٌ ذُلال وكلِ عامٍ وأنتم و(العيكورة) بألف. ورحم اللهُ كُلّ من مضي الى ربه من أهلنا .
بقلم: صبري محمد علي (العيكورة)
The post السودان: العيكورة يكتب: فَطُور (حَقّار) يوم العيد appeared first on الانتباهة أون لاين.