غير مصنف

الصادق إسماعيل: المجلس التشريعي والفرصة الأخيرة

الوثيقة الدستورية بكل إيجابياتها وسلبياتها، تعتبر هي أساس التسوية والمساومة التي فرضها توازن القوى الذي أنتجته ثورة ديسمبر المجيدة، وبنظرة فاحصة للاحتقان الحادث الآن والتجاذب والتشاكس السياسي، يبدو المجلس التشريعي كطوق نجاة أخير، وفرصة نادرة لتصحيح مسار تحالف قوى الثورة. وفي نفس الوقت دافعاً للجميع لإعادة الروح لتحالف الحرية والتغيير باعتبار أنه أمر يطالب به الجميع، ويجب الوصول فيه لحد أدنى للتوافق على اختيار نواب المجلس التشريعي. وهؤلاء النواب هم من سيمارسون سلطة التشريع والرقابة على الجهاز التنفيذي، الأمر الذي سيسهم في حل كثير من المشاكل التي نتجت في الفترة السابقة، وأبرزها الاتّهامات التي طالت التشريعات التي أصدرها الاجتماع المشترك بين المجلس السيادي ومجلس الوزراء والذي ملأ الفراغ التشريعي بسبب عدم قيام المجلس التشريعي، بالإضافة لعدم الشفافية التي يشكو منها الجميع في أداء الجهاز التنفيذي.

النسب المعلنة حتى الآن تعطي قوى الحرية والتغيير ٢٠١ مقعد، منها ٧٥ مقعداً تذهب للجبهة الثورية ستختارها حصرياً بموجب التعديلات التي رافقت توقيع اتفاق السلام، وعليه يتبقى ١٢٦ مقعداً تذهب لقوى الحرية والتغيير، بالإضافة لـ٩٩ مقعداً يتشارك المكون العسكري وقوى الحرية والتغيير في اختيارها من القوى غير الموقعة على إعلان الحرية والتغيير، بحيث تكتمل الـ٣٠٠ المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية.

وبصرف النظر عن موقف الناس من قوى الحرية والتغيير، فستظل هي المسؤول الأول عن تكوين المجلس، عطفاً على ما ورد في الوثيقة الدستورية. وعليه، ولكي يتم كسب المعركة لصالح التغيير المنشود، يجب على قوى الحرية والتغيير أن تعمل على جعل قيام المجلس التشريعي نقطة بداية جديدة، وذلك من خلال إعادة الثقة بينها وبين الثوار ممثلين في لجان المقاومة والنساء (٤٠٪ من نسبة قحت تذهب للنساء)، خصوصاً إذا سبق اختيار ممثلي الفئتين الأخيرتين تشاور وحد أدنى من التوافق على أسماء المرشحين والمرشحات.
وكما يجب على قوى الحرية والتغيير، التواصل مع القوى التي كانت جزءاً منها ووقّعت على ميثاق الحرية والتغيير والتي ابتعدت وانسحبت، أو أبدت ملاحظات جوهرية على طريقة أداء قوى الحرية والتغيير، مثل الحزب الشيوعي وتجمع المهنيين. وللوصول لهذه الغاية يجب على قوى الحرية والتغيير، التشاور مع كل هذه القوى والوصول معها لتفاهم في ترشيح الأسماء التي ستشارك في المجلس. بالطبع أمرٌ مثل هذا يتطلب إرادة سياسية وتسامياً فوق الخلافات التي حدثت مؤخراً، وهي فرصة، أيضاً، لإعلاء التوافق الوطني على المكاسب الحزبية بحيث ينعكس ذلك على وجود جهاز رقابي وتشريعي قوي.

للوصول لما ذكرناه، يجب الاتفاق على الطريقة والآلية والتوزيع للمقاعد بالتوافق التام، أو بتوافق مقبول مع تحفظات غير جوهرية، ثم يأتي بعد ذلك ضرورة رفد الجهاز التشريعي بأسماء وكفاءات لها المقدرة الفعّالة على الرقابة ونقاش وتعديل السياسات العامة للجهاز التنفيذي، ويعمل على ردم الهوة بينه وبين الشعب. وهذا يتطلب البُعد عن المجاملة، وعدم اعتبار اختيار الأشخاص كنوع من التوظيف أو المكافأة، فهذا جهاز سيكون له دور محوري في نجاح الفترة الانتقالية، فلا مجال لتكرار الأخطاء التي صاحبت الاختيار للمجلس السيادي ومجلس الوزراء، بل يجب أن يكون تجاوز تلك الأخطاء هو أساس المعايير الخاصة باختيار نواب التشريعي. إذا تحقق هذا التوافق والتفاهم في إعادة توحيد قوى الثورة، فنتوقع أن يساهم المجلس التشريعي في إتاحة الفرصة لمشاركة واسعة لقطاعات الشعب، مما يجعلهم مشاركين حقيقيين ومطلعين على خطط وأداء الحكومة وخصوصاً متابعة تنفيذ مطالبهم بدلاً من اضطرارهم لاستعمال سلاح الاحتجاج والتظاهر. فممثلو الشباب سيصبح بإمكانهم المشاركة المباشرة في مراقبة ومحاسبة الحكومة إذا خرجت عن مسار تحقيق أهداف الثورة. أيضاً سيتيح المجلس التشريعي فرصة لنقاش سياسات الحكومة المُختلف حولها ومناقشتها مما يحقق قدراً كبيراً من الشفافية التي غابت طوال الفترة الماضية.

إذا تم الأمر كما أشرنا له، فسيكون ذلك رداً على المتخوفين من أن يتحوّل الجهاز التشريعي إلى أداة للبصم على قرارات الحكومة، وهو تخوف مفهوم ووارد، لأن طبيعة المجلس ووجود ممثلين لكل القوى المجتمعية سيكون هو الضمان لعدم تدجين المجلس. فحتى وإن فشلت الأقلية في تمرير مطالبها ورؤاها داخل المجلس التشريعي، يمكن أن تنقلها لتشاور أكبر خارج قبة المجلس التشريعي، بحيث تحشد لها رأياً عاماً يجعل من المستحيل على الأغلبية تجاوز رأي الشارع، أو على الأقل تضطر لإعادة النظر في فرض السياسة المعينة أو تبذل جهداً أكبر في إقناع الناس بها لحشد دعمهم والوصول لمساومة مقبولة من الجميع.

بالطبع النقطة أعلاه لا تعني فرض القرارات عبر التظاهر والضغط من الشارع كبديل للوصول الى توافق داخل المجلس نفسه، ولكنها في نفس الوقت تعني أن التوازنات داخل المجلس التشريعي يجب أن تراعي المزاج العام والمطالب الشعبية، ففي النهاية هو مجلس مُعيّن وليس مُنتخباً، الأمر الذي يعني تباين الآراء أحياناً، وربما الاصطفاف أيضاً. وهذا يجعل من حق بعض القوى استعمال الوسائل الديمقراطية لإسماع صوتها إذا شعرت بهيمنة الاغلبية على قرارات المجلس وتوجهاته التي ربما تبعد عن روح وأهداف الثورة.

السيناريو أعلاه مبنيٌّ على وجود إرادة حقيقية من القوى السياسية للخروج من حالة الفشل والاحتقان التي وسمت الفترة الماضية إلى رحاب التوافق على قضايا الوطن الكبرى، ولذلك يتطلب الأمر أن تعترف القوى السياسية بشفافية، بالأخطاء التي صاحبت أداءها في الفترة الماضية، وأن تجلس بكل شجاعة لتجاوز الماضي وخلافاته، وفتح صفحة جديدة يتم فيها إعلاء القضايا الوطنية وجعلها أولوية، وتفهم الخلافات ووضعها في مكانها الحقيقي كخلافات في وجهات النظر ولا ترقى لاتهامات عدم الوطنية والتخوين.

وغنيٌّ عن القول، إن الناظر لمسيرة التحالفات يجد أن القوى السياسية السودانية والتي تسيطر على قوى الحرية والتغيير، وبرغم كل ما نراه من خلافات وصلت درجة التخوين، يجد أنها غالباً ما تتحالف وتتوافق على القضايا الوطنية الكبرى في اللحظات المفصلية. وهو ما شاهدناه في التحالف الذي أسقط عبود ونميري وحتى البشير، مروراً بتجربة التجمع الوطني الديمقراطي والتفاهمات المتعددة إبان مسيرة العمل الوطني. هذه التحالفات والتفاهمات تمت بالرغم مما حدث من قطيعة واتهامات سابقة بين تلك القوى، وصلت في حدتها لتبادل نفس تلك الاتهامات التي نسمعها الآن وبين نفس القوى التي عادت وتحالفت معاً مرة أخرى.

ختاماً، نتمنى أن تجد هذه الدعوة آذاناً صاغيةً، ورغبة حقيقية نتجاوز بها الخلافات نحو بداية جديدة للثورة، نتكاتف فيها لتحقيق الأهداف التي ثرنا من أجلها.

The post الصادق إسماعيل: المجلس التشريعي والفرصة الأخيرة appeared first on باج نيوز.

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى