غير مصنف --

تساوت فيها كل الحكومات.. إقرار الذمة… الفريضة الغائبة!!

رغم ثنائية الفقر والفساد، التي ظلت تُحاصر بلادنا، إلا أنَّ حكوماتنا المتعاقبة منذ الاستقلال وحتى الآن، أخفت عن شعبها (المكلوم) حقيقة الوضع المالي الخاص بالمسؤولين في البلاد، ونحن نقصد هنا – تقديم كشف حساب يحوي الممتلكات المادية والعينية للمسؤول (إقرار الذمة) سواء كان رئيساً، قيادياً، وزيراً، أوغيره بأجهزة الدولة قبل أداء القسم ومزاولة مهامه.. السطور التالية نتناول فيها الموضوع بكل أبعاده الأخلاقية والاقتصادية والقانونية.

أول الغيث
خلال الأيام القليلة الماضية، وقَّع والي ولاية الجزيرة عبد الله إدريس الكنين، بالنيابة العامة بمدني، أمام مولانا عبد الرحمن محمد أحمد رئيس النيابة العامة ورئيس نيابة مكافحة الثراء الحرام بالولاية، على إقرار الذمة المالية حسب قانون مكافحة الثراء الحرام، وأعقب ذلك بتصريح قال فيه إنَّ الأجهزة العدلية وخاصة النيابة العامة شريك أصيل في تحقيق شعار العدالة الذي نادت به ثورة ديسمبر المجيدة.

لكن يبقى السؤال المهم جداً هو: هل فعل ذلك أيّ من المسؤولين بالحكومة الانتقالية بدءاً برئيس الوزراء د. عبد الله حمدوك، وختماً بالمديرين التنفيذيين الذين ينتشرون بطول البلاد وعرضها؟؟ .. أم أن التصرُّف كان فردياً واختيارياً من الوالي “الكنين”؟؟

20 سنة انتظار
بالتقصي والتوغل في الموضوع نجد أن البلاد مرت بعدة حكومات متعاقبة ما بين منتخبة وانقلابية وانتقالية منذ الاستقلال عام 1956 م وحتى الآن (2020 م) لم ير الشعب سوى الأماني، والنصوص المكتوبة فقط ولا شيء سوى الكتابة .. من المفارقات المحزنة أن أحد المسؤولين السابقين بإدارة الثراء الحرام كان قد أبلغني منذ سنوات بأنه قام بتوزيع طلبات لملء إقرارات الذمة للمسؤولين بالدولة حينذاك وهو لا يزال في انتظار هؤلاء المسؤولين، كان ذلك قبل 20عاماً!!..

موجودة في القانون ولكن…
رغم تهرّب الجميع منها لكن الغريب في الأمر أن الجميع يتفق على وجود نص في القانون يشير إلى إقرار الذمة لكنه لم تر النور ولم يسمع الشعب السوداني حتى الآن أن حكومة من حكوماته المتعددة قدّمت إقرارات الذِّمة ,وبما أن أحد شعارات الحكومة الانتقالية الحالية محاربة الفساد بجميع أشكاله وإعادة الأموال المنهوبة ورخاء ورفاهية المواطن, مما يستوجب الأمر بطبيعة الحال إلى الشفافية.. فمن باب أولى أن يخضع جميع أعضائها لإقرارات الذمّة ، فهل تفعلها هذه الحكومة أم تلتحق برفيقاتها السابقات ؟!…

جهاز متابعة
ويقول بروفيسور حسن الساعوري إن الجهة التي ترسل إقرارات الذّمة يفترض عليها متابعتها لأن هذه الجهة إذا لم تتابع تلك الاستمارات واحدة وراء الأخرى فهذا يعني أنها غير جادة، والجدّية هنا تعني متابعة المسؤولين بكتابة هذه الإقرارات لرئيسهم في العمل أو لرئيس الوزراء أو رئيس الجمهورية أو لوزير المالية. وهي إذا تم تطبيقها بالشكل الصحيح مطلوبة لأن أي مسؤول في وظيفة عُليا بعد استلامه للعمل يصبح الرأي العام مطلعاً وعالماً بالضبط ماذا يمتلك و من الأفضل بأن يكون هناك جهاز متابعة خاص نستطيع من خلاله معرفة ما إذا كانت هذه فعلاً ممتلكاته وما إذا حدث فيها تغيير, ولكن هذه المسألة (صعبة) -على حد تعبيره- ويشرح لنا ذلك بقوله : أفترض أنا كتبت عندي ثلاثة بيوت فهل تصدِّقني؟، بالتأكيد لا ..لا بد أن أكتب أنا عندي ثلاثة بيوت بمواصفات كذا في مربع كذا في المناطق كذا بالتفصيل حتى نتأكد فعلاً بأن لديك ثلاثة بيوت، لأنه من الممكن أن لا يكون لديك بيت وتخطط لعمل ثلاثة بيوت أثناء ممارستك للوظيفة العامة !) وإقرار الذّمة حسب الساعوري يعطي ويمنح الشخص المسؤول الشعور بأن هناك محاسبة وأن هنالك من يراقبه.
ودعا في نفس الوقت إلى ضرورة وأهمية وضع ضوابط مالية ومتابعة دقيقة وإصلاح للقوانين مع وضع لوائح وقوانين مواكبة لتطورات أنواع الفساد وإتاحة الحريات العامة خاصة حرية الصحافة للكشف ولتوجيه الرأي العام.

شفافية
من ناحيته يؤكد القيادي بالحزب الاتحادي الديمقراطي (الأصل)، د.علي أحمد السيد المحامي أن هذا الإجراء مهم جداً لأنه يؤدي للشفافية في النهاية ويُفترض على الفرد أن يقدِّم إقراراً بالذّمة قبل وبعد الانتهاء من وظيفته في السلطة, وهذا الإجراء كما أشار معمول به في دول العالم من حولنا بينما عندنا هنا في السودان مجرّد كلام!.
وهذا الإجراء على حسب علي أحمد السيد ضروري ومهم قبل أن يؤدي الشخص القسم لاستلام وظيفته العامة بأن يقدِّم إقراراً بالذّمة لنفسه وزوجته وأولاده، وعندما ينتهي من الوظيفة أيضاً يقوم بعمل إقرار بالممتلكات التي لديه, مشيرأ إلى أن الجهة المسؤولة والتي تقوم بمتابعة تلك الإقرارات هي إدارة النائب العام وأن على إدارة النائب العام القيام بذلك مع كل الموظفين بالدولة لمنع الفساد، وبالتالي أي شخص يتقلّد منصبا دستوريا يفترض عليه أن يخضع لإقرار الذّمة ويفترض بأن يكون هناك بند آخر كما أشار بذلك يطبّق في نهاية فترة المسؤول بأن يخضع لإقرار الذّمة حتى تتم معرفة ما إذا كانت هناك حالات فساد ظهرت أثناء فترة عمل المسؤول، ومن شأن هذا الإقرار الأخير الذي يقدمه المسؤول في نهاية خدمته تسهيل عملية المتابعة واتخاذ إجراءات قضائية حال ظهور تجاوزات أو مخالفات لإقرار الذّمة الذي قدمه المسؤول، ويكشف علي السيد بأن مسألة الخضوع لإقرارات الذمة لا يمكن أن يقوم بها المسؤولون على كل المستويات من تلقاء أنفسهم لأن هنالك جهة مسؤولة عن ذلك, وهي في نظره إدارة النائب العام التي من صلاحياتها إخضاع كل أعضاء السلطة التنفيذية والتشريعية وجميع أجهزة الدولة لإقرارات الذّمة ومتابعتها عند التعيين ولدى نهاية الخدمة، وينادي السيد بضرورة إنشاء جهاز فعّال بذلك داخل إدارة النائب العام حتى يكون عملاً مؤسساً وليس مجرّد كلام عاطفي.

والحصيلة….؟
سواء كانت إقرارات الذمة تعود لمدى جدية النظام السياسي في تطبيقها أو هي سلوك شخصي يتعلق بالتربية والوازع الديني والأخلاقي أو لو كانت هذه الإقرارات من صلاحيات إدارة النائب العام فهي لا تزال حتى الآن حبراً على ورق ولا تزال محفوظة في الأضابير!
هذا ما كان عليه الحال طيلة العهود السابقة… وبالرغم من كثرة التطرق والإشارة إلى أهميتها… ولكن هل ستبقى كما وصفها الخبير الاقتصادي الشهير المرحوم فاروق كدودة بقوله: (لاحياة لمن تنادي)! .

واجب الحكومة الانتقالية
وبعد مضي عام على قيام الثورة وتغيير النظام السياسي وتكوين الحكومة الانتقالية برئاسة حمدوك يؤكد عادل خلف الله المحلِّل الاقتصادي وعضو اللجنة الاقتصادية بقوى الحرية والتغيير أهمية وجود إقرارات الذمة في العمل العام وتكمن أهميتها الاقتصادية والسياسية في من يتولى الوظيفة العامة بالدولة بمعرفة الموقف المالي قبل توليه المنصب وعلى هذا الأساس يحول إقرار الذمة دون استخدام الوظيفة العامة لتحقيق مكاسب شخصية للمسؤول أو لأقربائه من الدرجة الأولى- الزوجة, الأبناء, الأشقاء, الوالدين.

وإقرارات الذمة في نظره إحدى وسائل مكافحة الفساد وتحقيق الشفافية في نظام الحكم الديمقراطي.
ويقول عادل خلف الله إن الجدوى الاقتصادية تظهر بتأثير هذا الإجراء المهم إذا ما قارنا ممارسات من تولوا الوظائف العامة طيلة حقبة النظام السابق حيث كان كل من تولى وظيفة عامة يزاول بشكل مباشر أو عن طريق واجهات أنشطة خاصة متعددة التسميات كأن يشارك مثلاً في مجالس إدارات بنوك أو شركات خاصة وغيرها من الأنشطة وهذا أحد عوامل تفشي وانتشار الفساد في النظام السابق على مدار واسع وبالتالي فقدت الوظيفة العامة حيدتها ونزاهتها وسمحت في ظل طبيعة النظام السابق إلى التحول إلى وسيلة ثراء لكل من تولى المسؤولية العامة وأقربائه وأعضاء التنظيم الحاكم الذين كانوا يتحكمون في وضع المخصصات والتوظيف والعطاءات وحركة التجارتين الداخلية والخارجية في السوق المحلي والخارجي وفي كل نشاط تجاري كان لهذا المسؤول نسبة معلومة بسبب استغلاله للوظيفة العامة .

وبالرغم من اعتراف عادل خلف الله بأن هنالك بعض الإقرارات تم تقديمها من بعض الولاة إلا أنها لا تزال في إطار محدود قام بها هؤلاء الولاة من تلقاء أنفسهم ويرجع ذلك لعدم وجود آلية في مؤسسات الدولة تلزمهم بتقديم الإقرارات, وهو الدور المناط أن يقوم به المراجع العام ووزير شؤون الرئاسة وأمين مجلس السيادة حيث من المفترض أن تقوم تلك الجهات الثلاث بمتابعة إقرارات الذمة وإطلاع الرأي العام عليها وهذا هو واجب الحكومة لتعزيز وترسيخ مفهوم السلطة المدنية والثقة والشفافية وإبعاد الشبهات عمن يتولون الوظيفة العامة .

فرصة ما بعد السلام
ويؤكد الخبير الاقتصادي د.محمد الناير أهمية إقرارات الذمة مشيراً إلى الضعف والتجاهل الذي تواجهه إقرارات الذمة المالية بالنسبة إلى المسؤولين وعدم الالتزام بها والوضع الطبيعي بأن يخضع رئيس الدولة والنواب ورئيس الوزراء والوزراء والولاة والمعتمدين وجميع قيادات الخدمة المدنية لإقرارات الذمة المالية، وتشمل هذه الإقرارات كل الممتلكات من أراض وعقارات وإدارات والأموال السائلة والشركات وشهادات الاستثمار وغيرها الخاصة به وبأسرته وذلك تحت إشراف ومتابعة لجنة عليا تكون برئاسة النائب العام وهي الجهة الوحيدة المخوّل لها الإطلاع على إقرارات الذمة.

ويمكن على رأي د. الناير تجديد هذه الإقرارات سنوياً إذا ماحدثت مستجدات مالية للشخص المعني شريطة أن يثبت الشخص مصدر الأموال أو الممتلكات بالوثائق والمستندات التي تؤكد حقيقة امتلاكه لها وعلى اللجنة القانونية التي يتم تكوينها التأكد من هذه المستندات سواء كانت شهادات بحث بأن تكون معتمدة أوشهادات حكومية – شهامة- أو أسهم يجب تقديم المستندات المؤيدة لذلك, جميع هذه الإطارات يجب فحصها مرة أخرى عند نهاية خدمة الموظف العام في حالات الإعفاء أو الاستقالة أو الإحالة إلى التقاعد(المعاش), والحكمة في ذلك على حسب الناير لمعرفة حجم التغيير الذي حدث وهل يتوافق مع دخل الشخص خلال الفترة التي أمضاها في الوظيفة العامة أم لا…فإذا كان لا يتناسب يجب مساءلته من أين لك هذا؟ .

ويؤكد د.الناير بأن مبدأ أو قانون (من أين لك هذا) لم يتم تفعيله بسبب القصور الكبير في متابعة إقرارات الذمة خاصة وأن الشعب السوداني ذاكرته حية ويستطيع أن يتعرف على أي شخص قبل (10) سنوات كيف كان وضعه المالي قبل تقلّده للوظيفة العامة وأن تفعيل من أين لك هذا من شأنه إعادة واسترداد أي ممتلكات عامة سواء كانت على شكل أصول ثابتة أو متداولة من أي شخص أثرى ثراءً حراماً من خلال استغلال نفوذه فترة تقلده للوظيفة العامة.

تحقيق: ياسر أحمد عمر

صحيفة السوداني

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى